
المشهد العبثي في ليبيا

تجليات الدولة "المدنية" في ليبيا، ومفارقات نظرية "التثنية"
تلفزيون الواقع في العالم العربي لا نظير له .. هذا ما خطر على بالي حين وقعت عيناي بالصدفة -في إحدى النشرات- على المشهد "السريالي" للمشير أركان حرب خليفة أبو القاسم حفتر، القائد الأعلى للقوات المسلحة الليبية (أو جيش شرق ليبيا)، خاطبًا في جمهوره "العسكري"، وهو في كامل زيه "العسكري"، بالقول واثقًا: "يجب أن نمضي قدما في بناء دولة مدنية"!!
مدنية؟! طيب قول مثلا دولة قوية (من باب المجاز)، أو سلطوية أو توريثية (من باب المصارحة)، أو أي وصف آخر يمت -ولو من بعيد- لأي رؤية "واقعية".
خطاب الجنرال (الأمريكي الجنسية)، المرصّعة بزته العسكرية بكل أصناف النياشين والأوسمة التي لا يدري أحد أين ومتى ولماذا نالها، كان بمناسبة الاحتفال -الإثنين الماضي- بالذكرى الخامسة والثمانين لتأسيس الجيش الوطني الليبي (الذي يتخذ من طبرق مقرا)، وفي سياق طرح القائد العام لمعالم "رؤية 2030" التي ستحقق الأمن والاستقرار في ربوع ليبيا، المنقسمة عمليًا منذ سقوط نظام معمر القذافي إلى دولتين بحكومتين وبرلمانين وجيشين .. إلى آخر مشتقات "التثنية" في اللغة العربية. وهي المناسبة "الاحتفالية" ذاتها، التي قرأ فيها المشير على كبار قادته من الحضور قرار تنصيب ابنه الفريق أول صدام حفتر (33 عامًا – ربما أصغر من نال رتبة "فريق" في العالم) نائبا له -بعد موافقة أكثر من 70 عضوا في مجلس نواب بنغازي على تعديل القانون لإضافة صفة نائب القائد العام للقوات المسلحة، برغم اعتراض نواب طرابلس. ولم يكد يمر يومان (ما زلنا في أجواء التثنية) على الاحتفالية "العسكرية"، حتى أعلن القائد المشير نجله الآخر خالد رئيسا لأركان الجيش (خلفاً لصدام الذي رُقّي إلى نائب القائد العام).
يعني في غمضة عين، وضع الجنرال اثنين (حفاظا على مبدأ التثنية في المشهد الليبي) من أبنائه الستة على رأس الهرم "العسكري" في الدولة "المدنية" التي يحض على المضي في بنائها.
والطريف أن "اثنين" آخرين من أنجال المشير حفتر، وهما بلقاسم (الذي تولى في فبراير الماضي رئاسة صندوق التنمية وإعادة الإعمار) والصديق (رئيس المفوضية العليا للمصالحة الوطنية، المكلّفة بالترويج للحوار الوطني بمشاركة القبائل الليبية)، "يجريان محادثات مع بعضهما البعض في بنغازي لمناقشة مستقبل ليبيا"، حسب الخبر المنشور في صحيفة 'ليبيا أوبزرفر'. والحقيقة، لم تتوفر لي معلومات عما يفعله الابنان المتبقيان من آل حفتر .. لكن ليس من الصعب التكهّن بما يستعدان له، على خطى أشقائهم النبهاء.
يتحدث بعض المراقبين عن مؤشرات تشي بإسراع القائد "البالغ من العمر 81 عامًا"، والذي أُصيب بجلطة دماغية عام 2018، في خطوات "ترتيب منظومة خلافته". بينما يرى 'ولفرام لاشر' من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، أن التعيينات الأخيرة ما هي إلا "استمرارية لما كان منذ البداية جيشًا خاصًا وعائليًا، يعزز به حفتر -المدعوم مصريًا وإماراتيًا وروسيًا- سلطته الفعلية على مفاصل الحكم بشرق ليبيا في مواجهة منافسيه (المدعومين تركيًا) في غرب ليبيا". ويدلل الخبير الألماني على وجهة نظره بأن "الدائرة المقربة التي تُسيطر على الوحدات العسكرية وعلى الموارد الرئيسية لهذه الإمبراطورية الخاصة، تتألف بالأساس من أبناء خليفة حفتر، ومن أبناء عمومته وأبناء إخوته وأصهاره". يعني نسخة غير معدّلة من منظومة الزعيم القائد معمر القذافي .. والقياس هنا طبعا مع الفارق ؛ ليبيا موحدة مقابل ليبيا المزدوجة، ورتبة المشير مقابل العقيد .. ولا كتاب أخضر أو حتى أحمر !!