من نحن اتصل بنا سياسة الخصوصية
×

ولا حس ولا خبر

د.محمود خليل
ولا حس ولا خبر


   أزمة مالية كبيرة عصفت بالبلاد في عصر الخديوي اسماعيل، تم تحميل مسئوليتها كاملة لوزير المالية آنذاك "اسماعيل صديق" الشهير بـ"اسماعيل المفتش"، وجه "مستر جوشن" مندوب الحكومة الانجليزية في الرقابة الثنائية على مصر اتهاماً صريحا لـ"المفتش" بتوريط البلاد في ديون لم يستفد منها الاقتصاد. فهو من وجهة نظره الرجل الذي جلس على كرسي وزارة المالية 8 سنوات متصلة، باستثناء فترة قصيرة استبعد فيها عن هذا الموقع، وتولى عمر لطفي مكانه، ثم عاد إليه مرة ثانية، و"اسماعيل صديق" أيضاَ هو الطرف الأساسي الذي أدار العديد من الاتفاقيات مع بيوت المال الأوربية للحصول على المال اللازم للمشروعات التي تبناها الخديوي.

  تقول كتب التاريخ أن مستر "جوشن" ضغط على الخديوي "اسماعيل" كي يتخلص من وزير ماليته "اسماعيل المفتش"، وأن الأول لم يجد مفراً من ذلك أمام إصرار المندوب الانجليزي، فأطاح بالمفتش وعين مكانه نجله الأمير حسين كامل (السلطان فيما بعد) مكانه. طبعاً لم يكن الأمر هينا على الخديوي، لكنه كان يعلم أن العاصفة الأوربية التي تجتاح البلاد من أجل السيطرة على ماليتها أكبر وأقوى وأعتى منه، وتُظهر مسارات الأحداث بعد ذلك أن الخديوي كان يخطط لأن يجعل من "اسماعيل المفتش" كبش فداء لأخطائه الكبرى والتي أدت إلى الأزمة المالية التي لفت البلاد، وبناء عليه تم عزله من المنصب، لكنه فوجىء بعد ذلك بالمندوب الانجليزي يصر على تقديم "المفتش" للمحاكمة أمام المحاكم المختلطة الأوربية، فاضطرب أشد الاضطراب.

  أدرك الخديوي أن أي تحقيقات مع "المفتش" سوف تكشف ضلوعه في الأزمة وكيف أن العجز المالي الذي تعاني منه البلاد لم يكن مرده فقط إلى وزير المالية الذي كان يأخذ لنفسه نصيباً من الغنيمة، بل سيمتد أيضاً إلى ما كان يسحبه الخديوي لينفق منه على الأراضي الكثيرة التي كان يشتريها ويقتنيها لنفسه، إلى حد أن استولى على خمس الرقعة الزراعية في مصر!.

  أمام هذا التهديد استبق الخديوي الأحداث، ونصب محاكمة عاجلة لـ"المفتش" بتهمة "التآمر على الخديوي"، وقبل إجراء المحاكمة، قرر الخديوي التخلص منه، فاستدعاه إلى "سراي عابدين"، وطمأنه، وتلطف في الحديث معه، ثم اصطحبه معه إلى "سراي الجزيرة" وأصدر أوامره إلى أتباعه بالقبض عليه وقتله ثم إلقاء جثته في النيل، ومن يومها اختفى ذكر "اسماعيل المفتش" الذي ظل ملء السمع والبصر في المحروسة مصر طيلة 8 سنوات.

  ابتلع النيل "المفتش" وطوى معه سره وذكره دون أن يعلم أحد في حينها بنبأه، وتمكن الخديوي من التشويش على الجميع بأن نصب محاكمة "المفتش" بتهمة التآمر على الخديوي -كما كان متوقعاً- وحكم عليه بالنفي إلى دنقلة في السودان، وأشاع في البلاد أن الحكم قد تم تنفيذه، وتم نفي "المفتش" خارج البلاد، وبعد سنين من الحدث أدرك الناس أن مصير "المفتش" كان في النيل، حيث ابتلعته مياهه في صمت دون أن يبين له "حس ولا خبر".

#نقاش_دوت_نت