
إغلاق حكومي في الولايات المتحدة بعد فشل الكونغرس في التوصل إلى اتفاق التمويل الاتحادي

حدث الإغلاق الأول عام 2018-2019 والذي استمر لمدة 7 أسابيع وكسر الرقم القياسي لأطول إغلاق في التاريخ الأمريكي
توقفت معظم الحكومة الفيدرالية عن العمل بعد أن فشل الجمهوريون والديمقراطيون في مجلس الشيوخ في الاتفاق على مشاريع القوانين التمويلية المتنافسة للحفاظ على استمرار عمل الحكومة.
الإغلاق الحكومي الأمريكي هو ببساطة موقف تتوقف فيه الحكومة عن العمل بشكل جزئي لأن السياسيين في الكونغرس فشلوا في الاتفاق على ميزانية الدولة في الوقت المحدد. تخيل أن الحكومة مثل شركة ضخمة فجأة توقفت عن دفع رواتب موظفيها وأغلقت معظم مكاتبها، هذا بالضبط ما يحدث عندما لا يمرر الكونغرس قانون التمويل قبل الموعد النهائي.
النتيجة المباشرة هي أن مئات الآلاف من الموظفين الحكوميين يُجبرون إما على البقاء في بيوتهم في إجازة إجبارية، أو مواصلة العمل لكن بدون رواتب، بينما تبقى فقط الخدمات الأساسية والحيوية مثل الجيش والشرطة والمطارات تعمل، لكن حتى هؤلاء الموظفين قد يستمرون في عملهم بلا أجر بشكل مؤقت حتى تُحل الأزمة. هذه ليست المرة الأولى التي تحدث فيها هذه الأزمة في أمريكا، لكن ما يجعل الوضع الحالي مختلفاً ومقلقاً هو أن هذا أول إغلاق حكومي منذ سنة 2018، وهو يأتي في توقيت سيء جداً من الناحية الاقتصادية.
الأرقام التي نتحدث عنها ضخمة ومخيفة، فهناك حوالي 750 ألف موظف فيدرالي يومياً سيتأثرون بهذا الإغلاق، وهذا يعني أن الحكومة ستوقف دفع حوالي 400 مليون دولار من الرواتب والتعويضات كل يوم يستمر فيه الإغلاق. هؤلاء الموظفون ليسوا مجرد أرقام، بل هم جزء أساسي من الاقتصاد الأمريكي لأنهم يشكلون قوة شرائية كبيرة، فعندما يتوقفون عن تلقي رواتبهم سيتوقفون عن الإنفاق، وهذا يضغط بشكل مباشر على الأسواق والمحلات التجارية والشركات التي تعتمد على إنفاق هؤلاء الموظفين.
لكن المشكلة لا تتوقف عند هذا الحد، فالإغلاق يحدث في وقت يعاني فيه الاقتصاد الأمريكي من مشاكل عميقة أخرى. الدولار الأمريكي، الذي يُعتبر أقوى عملة في العالم، يمر بأسوأ سنة له منذ عام 1973، حيث فقد حوالي 10% من قيمته هذا العام. هذا التراجع في قيمة الدولار له تأثير مباشر على حياة الناس، فحسب نماذج الاحتياطي الفيدرالي، كل انخفاض بنسبة 10% في قيمة الدولار يؤدي إلى ارتفاع التضخم بحوالي 0.3%، وهذا يعني أن الأسعار سترتفع أكثر والمواطن العادي الذي يعاني أصلاً من الغلاء سيجد نفسه في وضع أصعب. في محاولة لإصلاح الوضع، بدأ الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بخفض أسعار الفائدة لتحفيز الاقتصاد ودفع الناس للاقتراض والإنفاق.
لكن المشكلة أن خفض الفائدة في وقت ترتفع فيه الأسعار يخلق ما يُسمى بالركود التضخمي أو "Stagflation"، وهو أسوأ سيناريو اقتصادي ممكن لأنه يجمع بين نمو اقتصادي ضعيف وتضخم مرتفع في نفس الوقت، مما يجعل الناس تخسر من جهتين. في مثل هذه الظروف الصعبة والمربكة، يبحث المستثمرون عن ملاذات آمنة لحماية أموالهم من التقلبات والخسائر، وهنا يظهر الذهب كالبطل الحقيقي. المعدن الأصفر حقق ارتفاعاً مذهلاً بأكثر من 10% في شهر واحد فقط، وبحوالي 45% منذ بداية هذا العام، وسجل خلال هذا العام 39 قمة تاريخية جديدة، مما يجعله في طريقه ليحقق أفضل أداء سنوي له منذ عام 1979. السبب وراء هذا الصعود الصاروخي للذهب بسيط وواضح، فالمستثمرون فقدوا الثقة في الدولار وفي قدرة السياسات الاقتصادية الأمريكية على حل المشاكل، فهربوا بأموالهم إلى الذهب لأنه يحتفظ بقيمته حتى في أسوأ الأزمات. أما بالنسبة لسوق الأسهم، فالوضع فيه مليء بالتناقضات والإشارات المختلطة. على السطح يبدو كل شيء رائعاً، فمؤشر S&P 500 الذي يقيس أداء أكبر 500 شركة أمريكية يعيش واحدة من أفضل فتراته خلال الأشهر الستة الماضية، لكن عندما ننظر بعمق نجد أن هناك رهانات ضخمة من المستثمرين على أن التقلبات في السوق ستبقى منخفضة، وهذا يظهر واضحاً في مراكز البيع على مؤشر VIX الذي يقيس التقلب والخوف في الأسواق، حيث بلغت هذه المراكز أعلى مستوى لها منذ عام 2022. المشكلة في هذا الوضع أن أي صدمة مفاجئة أو حدث غير متوقع قد يرفع التقلبات بسرعة، وعندها سيضطر المستثمرون إلى تغطية مراكزهم بشكل مفاجئ وسريع، مما يخلق فوضى وارتباك كبير في الأسواق. لكن إذا عدنا للتاريخ ونظرنا إلى الإغلاقات الحكومية السابقة، سنجد أنها نادراً ما تركت أثراً طويل الأمد على سوق الأسهم، فصحيح أنها تجلب القلق والخوف والتقلب في البداية، لكن الأرقام التاريخية تُظهر أنه في 86% من حالات الإغلاق الحكومي السابقة، ارتفع مؤشر S&P 500 خلال السنة التالية بمعدل يقارب 12.7%، وهذا حدث بغض النظر عن هوية الرئيس أو الحزب السياسي الذي كان يحكم. الأثر الفعلي للإغلاق بدأ يظهر بوضوح حتى في سوق العمل الحكومي نفسه، ففي الأيام الأخيرة فقط، انخفض عدد الوظائف الحكومية المعلنة على الموقع الرسمي من حوالي 10 آلاف وظيفة إلى 1300 وظيفة فقط، أي هبوط ضخم بنسبة 87% مع ارتفاع احتمالات حدوث الإغلاق. الوضع أصبح أكثر وضوحاً وخطورة عندما صرح الرئيس ترامب مؤخراً قائلاً إن أمريكا "على الأرجح" ستدخل في إغلاق حكومي فعلي، وأسواق التوقعات التي يراهن فيها الناس على الأحداث المستقبلية قدّرت احتمال حدوث الإغلاق بنسبة 87% قبل ساعات قليلة من الموعد النهائي لتمرير الميزانية. إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق قبل منتصف الليل، فسيبدأ الإغلاق رسمياً وتتوقف الحكومة عن العمل. من المهم أن نتذكر أن آخر مرة حدث فيها إغلاق حكومي كانت عام 2018 واستمر لمدة 35 يوماً كاملاً، وكان الأطول في تاريخ الولايات المتحدة بأكملها، بينما المعدل الطبيعي لمدة الإغلاقات السابقة لا يتجاوز 8 أيام فقط.
الخلاصة هي أن الإغلاق الحكومي يوقف جزءاً كبيراً من مؤسسات الدولة ويضع ضغطاً هائلاً على الموظفين وأسرهم الذين يعتمدون على رواتبهم لتغطية احتياجاتهم اليومية، وفي نفس الوقت يزيد من معدل التضخم ويهز ثقة المستثمرين في الأسواق. لكن التاريخ يعلمنا أن هذا الإغلاق على الرغم من خطورته وتأثيره المباشر على حياة الناس، فإنه لا يغير مسار السوق الأمريكي على المدى البعيد، بل عادة ما يكون مجرد أزمة مؤقتة وعابرة تنتهي بتوصل السياسيين إلى حل وسط. لكن هذه الأزمة تترك آثارها الواضحة من خلال تعزيز مكانة الذهب كملاذ آمن وزيادة بحث المستثمرين عن طرق لحماية أموالهم من التقلبات والمخاطر التي تصاحب هذه الأوقات العصيبة...
#نقاش_دوت_نت.