من نحن اتصل بنا سياسة الخصوصية
×

الوظيفة رونالدو

نقاش
الوظيفة رونالدو


بعد كل مباراة بين الأهلي والزمالك تبدأ حلقة النقاش المعتادة بين الأصدقاء، المباراة لا تنتهي مع صفارة الحكم، لكنها تمتد إلى مبررات ومقارنات لا تنقطع: لماذا فاز هذا وخسر ذاك؟، ثم سرعان ما ينزلق الحديث إلى مستوى اللاعبين وأجورهم، ومنهم إلى نجوم العالم.

في هذا الجو يطل صديقي الكاتب الصحفي صاحب الابتسامة الدائمة والقلب الطيب، - الذي رفض ذكر اسمه خوفا من الضرائب- ليطلق قفشته المفضلة كلما سمع عن تلك الأرقام الفلكية: يا عم أنا عايز أشتغل رونالدو يوم واحد.. أو حتى أدرب المنتخب وهحقق نفس النتائج.

سبقته قبل يطلق نداءه الشهير فى جلستنا last order مين عاوز ايه: "ايوه بقى وساعتها مش هتعرف حد فينا وتأجر واحد تلاعبه طاولة تقعد تغلب فيه ولا يتكلم".

ضحكته، رغم خفتها، تحمل مرارة واضحة، فهي ليست مجرد دعابة، لكنها إشارة إلى زمن صار فيه المكسب السهل هو البطل، بينما العمل الحقيقي واقف على الخط يتفرج.

ولكى نفهم المفارقة علينا ان نتأمل المشهد: لاعب يركض وراء كرة تسعين دقيقة، فيقبض- أللهم لا حسد- ما لا يحلم به طبيب قضى عمره في غرفة عمليات ممن لا يملكون عيادات فاخرة، أو باحث أفنى سنوات في معمل، أو معلم يزرع الوعي في عقول أجيال.

المسألة هنا لا تخضع لميزان العدل أو الظلم، هى ببساطة "سوق".. اللي بيجري ورا الكورة ياخد ملايين، واللي بيجري ورا حياة بني آدم ياخد كلمة شكر وهى بالنسبة لهم تساوى أكثر من الملايين.

 يمكن أن يكون هذا الوضع مؤلما، لكنه فى الواقع انعكاس لنظام السوق الذي لا يقيم القيم الحقيقية بقدر ما يلاحق الضجيج، ومع ذلك، يبقى هناك أبطال من نوع آخر يغيرون المجتمع، حتى لو لم نحتفل بهم كما نفعل مع لاعبي كرة القدم.

والمشكلة ليست في الرياضة نفسها، حتى لا يعتقد البعض أننا ضدها أو ضد الموهبة فى أى مجال، فالرياضة في جوهرها تهذيب للروح والجسد، لكن الأزمة تكمن فى أنها تحولت لسلعة، وأصبح المتفرجون يدفعون للتذكرة ولا يدفعون لشراء كتاب.

والغريب إن التاريخ كان يكتب أسماء العلماء والمفكرين اللي غيّروا مسار الإنسانية، مثل ابن الهيثم وباستير، أما اليوم فيكتب أسماء هدّافي الدوريات، وأصحاب الكرات الذهبية، ونجوم "التريند" من التيك توك والمهرجانات.

وعلى طريقة فيلم "الناظر" حينما طرح الفنان يوسف عيد سؤال: "مين إللي قتل كليبر؟" وأجاب طالب: "والله ما أنا يا أستاذ".. لو سألت شباب الجيل الجديد عن مخترع البنسلين أو المصباح الكهربائي مش هيعرفوا، لكن لو سألتهم عن هداف الدوري الإنجليزي من عشر سنين هتلاقي الإجابة بالتفاصيل، وبعدد الأهداف كمان.

يبدو إننا أصبحنا نحب وهج اللحظة أكتر من نور الفكرة، ونركض وراء التصفيق وليس وراء الحقيقة.

نهتف للاعب يجيب جول في الدقيقة الأخيرة، وصوت الجماهير يعلو في الملعب، وننسى من يقدم إنجاز يؤثر فى البشرية، بينما رائحة الحبر على صفحات الكتب القديمة تذكرنا بالمعرفة الضائعة.. تماما كأننا لعبنا مباراة.. خسرناها في الآخر" 2 – صفر"..بس على الأقل، إحنا متفرجين حقيقيين وده برضو له طعمه.