خالد محمد خالد يعترف بخداع الرأي العام
اعترافات خالد محمد خالد بخداع الرأي العام !
في قواعد الخبرة الصحفية، هناك ثلاثة محاور تمثل برميل النار، الذي إن أمكنك اللعب فيه باحتراف فسوف تثير الزوابع وردود الأفعال العنيفة، وتختصر طريقك إلى الشهرة، وهو ما يعرف أيضا بثالوث "التابو" أو المحرمات في بلادنا، الدين والجنس والسياسة، هذا هو مثلث الإثارة الصحفية، ولما كانت تكلفة الخوض في السياسة عالية في بلادنا، وإن حاولت استفزاز "الحاكم" ستدفع ثمنا باهظا، فكان غالبية هواة الإثارة يلجؤون إلى المحورين المتبقين من ثالوث "التابو"، وهما الدين والجنس، ولذلك كانت الملاحظة في أغلب القضايا الصحفية التي أثارت ضجة في موضوعات تتعلق بالدين أو الجنس، أنها كانت تصدر من صحفيين أو كتاب موالين للسلطة القائمة، أو مقربين منها، أو مروجين لها، لأنها تضمن له الشهرة المجانية، والحضور بدون دفع تكاليف، باعتبار أن الدين في بلادنا هو "الحيطة المايلة" ليس له حماية جادة من القانون أو الدولة، والجنس تحمي الترويج له آلة دعاية عالمية جبارة تحت شعار حرية النشر.
في هذا السياق، هناك "لعبة" شهيرة، يحترفها بعض الكتاب، عندما يعانون من ضعف حضورهم، أو تأخر شهرتهم، أو تجاهل الرأي العام لكتبهم ومقالاتهم ونشاطهم، ويعزفون عن شراء كتبهم، حيث يقوم الكاتب من هؤلاء بافتعال أزمة، وعمل ضجة كبيرة، للفت الأنظار إلى كتابه الذي لم يهتم به أحد، كان بعضهم يرسل ـ مثلا ـ خطابا بريديا من مجهول إلى الأزهر، ملحقا به نسخة من كتابه، ويهاجم في الرسالة الكتاب بعنف ـ وهو كتابه! ـ ويتهم في الرسالة الكتاب بأنه يمثل اعتداء على الدين وتضليلا للشعب، وأنه يستغيث بالأزهر الشريف لكي يتصدى لهذا الكتاب الخطير المسيء، ويردع صاحبه، والحقيقة أن كاتب هذه الرسالة هو نفسه صاحب الكتاب، ولكنه يستفز الأزهر لكي يصدر فتوى بشأن الكتاب فتهيج له مؤسسات حقوقية وأصوات إعلامية تندد بقمع الفكر ومحاصرة الإبداع والتحريض على حرية الرأي والتعبير، وفي مقابل ذلك يهاجمه آخرون ويطالبون بمحاسبته، وبطبيعة الحال تثمر هذه الضجة وتحقق الهدف المقصود فيسمع الناس بالكتاب، ويقبل كثيرون على شرائه، من باب حب الاستطلاع، فيروج الكتاب ويربح مؤلفه، وتنجح خطته الجهنمية في الترويج له.
كثيرون فعلوا هذه الحركات في مصر، ومنهم الكاتب إبراهيم عيسى، وفعلها أيضا فرج فودة، وكان فرج أحيانا يمر على صحف المعارضة ـ خاصة ذات الميول الإسلامية ـ ويعاتب محرريها، لأنهم لم يهاجموا كتابه الجديد، ولم يحذروا منه، لأن هجومهم عليه هو مفتاح شهرة الكتاب والكاتب معا.
الوحيد الذي امتلك الشجاعة للاعتراف بهذا "الملعوب"، هو الأستاذ خالد محمد خالد، رحمه الله، الذي خلف لنا مذكراته التي صاغها بروح شفافة، ونفس صافية، وأمانة كاملة، وعدالة مع من يختلف معهم ومن يتفق معهم على حد سواء، وهي من أفضل المذكرات الشخصية التي قرأتها بين أبناء جيله، اعترف فيها بأنه افتعل هذه الحركات نفسها، عندما فشل كتابه الأول "من هنا نبدأ" ولم يفلح في أن يبيع منه نسخة واحدة، ولم يسمع به أحد، فأوحى له شيطانه بالخطة الجهنمية التي روى تفاصيلها ضاحكا متفكها في مذكراته، وهو يستحضر ذكرها بعد حوالي 40 عاما من حدوثها.
يحكي خالد محمد خالد في مذكراته (قصتي مع الحياة)، أنه في بداية عهده بالكتابة كان كاتبا مغمورا، لا يكاد يسمع به أحد، وكان يميل إلى الفكر الاشتراكي والعلماني، فألف كتاباً بعنوان "من هنا نبدأ"، ينتقد فيه الأزهر وعلماء الدين وتاريخ الإسلام ورموزه، ويطرح قضايا دينية مثيرة وغريبة وشاذة، وبطبيعة الحال لم يجد أي دار نشر تطبعه، لأنه كاتب مغمور لا يعرفه أحد، فطبع الكتاب على نفقته بإمكانيات متواضعة جدا في مطبعة فقيرة جدا ومغمورة، واضطر إلى اقتراض بعض المال لطباعته، ولما ذهب به إلى توزيع الأهرام استقلت شركة التوزيع عدد النسخ (1500) نسخة، ورفضت المخاطرة بتحمل مسؤولية توزيعه لأنه مجهود ضائع، فأراد أن ينشر إعلانا عن الكتاب، وهو مفلس، فساعده صديق بإعلان صغير في صحيفة "المصري"، لكن أحدا لم يعره أي انتباه، وكان كل يوم يذهب إلى سوق التوزيع ليتابع ما تم بيعه فيعود محبطا، لأنه تقريبا لم يبع نسخة واحدة .
وفي ليلة، تفتق ذهنه عن حيلة عجيبة، يقول أنه تعلمها من "برنارد شو"، فاجتمع مع صديق له كان طالبا في السنة النهائية بدار العلوم اسمه "محمد حسن البري"، وطلب منه أن يكتب مقالا عنيفا يشتم فيه الكتاب ومؤلفه ويهاجمه بضراوة، فسأله : لماذا ؟ قال له : بعد ذلك ستعرف!.
يقول خالد : جاءني البري في اليوم التالي وقد دبج المقال، فوجدته قد كال لي من الشتائم والوقاحات ما جعلني هممت بضربه، لكني ضحكت في النهاية وقلت له : أنا طلبت أن تنقد الكتاب لا أن تشتمني بكل هذه الوقاحات، ثم قال له ممازحا : ما اتفقناش على كده يا بري !.
لم يكن صديقه "البري" كاتب المقال ـ الذي يهجو خالد وكتابه ـ قد اهتدى لعنوان مناسب للمقال، فأخذ خالد القلم وكتب بنفسه عنوان المقال الذي يهاجم فيه نفسه : "كتاب أثيم .. لعالم ضال"، ثم ذهب بالمقال إلى الأستاذ "علي الغاياتي" صاحب مجلة "منبر الشرق"، فاندهش الرجل بعد قراءته للمقال، وقال أين الأزهر من هذا العدوان على الدين والعلم ؟، ثم نشر المقال، فتتابعت في المجلة في الأسابيع التالية مقالات تهاجم الكتاب، لم يقرأ أصحابها الكتاب، ولكنهم استثيروا من المقال الأول، ثم وصلت الضجة الصحفية إلى الأزهر، فطلب الأزهر التحقيق مع الكاتب، ثم وقعت معركة كبرى في الصحافة والمنتديات، بين من تعاطف مع الكاتب ومع من يهاجمه، حتى أصبح الكاتب والكتاب حديث المنتديات والمجالس، والكتاب الذي لم يبع منه نسخة واحدة، أصبحت طبعاته بآلاف النسخ تنفذ من السوق خلال يومين أو ثلاثة، وطبع منه طبعات بلا حصر، وانتشر الكتاب في مصر كلها ثم انتشر ـ على وقع الضجيج ـ في الدول العربية والدول غير العربية، وأصبح حديث إذاعات عربية وأجنبية، ونجحت خطة "الداهية" خالد محمد خالد، ومن يومها تحول من شاب مجهول لا يعرفه أحد إلى شخصية مشهورة، وكاتب تفتح له الصحف أبوابها، وتستقبله دور النشر بكل احتفاء !!.
الغريب، أن هذه "اللعبة" ما زالت متجددة حتى اليوم، وتتكرر على فترات، ويبدو أن لا أحد تعلم الدرس فيها.
