"الوصية الأولى": لوحة في تأسيس الوعي ..من "وشوشة ودردشة"
الوَصِيَّةُ الأُولَى لِلأُسْتَاذِ إِبْرَاهِيمَ مَسِيحَة، مُدَرِّسِ العُلُومِ.
الأُسْتَاذُ إِبْرَاهِيمُ، كَانَ قَوِيَّ البِنْيَةِ، وَذَا وَجْهٍ مُتَغَيِّرِ المَلَامِحِ وَالتَّعْبِيرَاتِ بِصُورَةٍ رَهِيبَةٍ.
فَكَانَ إِذَا ضَحِكَ تُحِسُّ أَنَّهُ طِفْلٌ بَرِيءٌ يَضْحَكُ بِتِلْقَائِيَّةٍ، وَإِذَا غَضِبَ تُحِسُّ أَنَّ السَّمَاءَ أَوْشَكَتْ أَنْ تَنْطَبِقَ عَلَى الأَرْضِ. وَكُنْتُ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ فِي الصَّفِّ الرَّابِعِ الاِبْتِدَائِيِّ.
وَكُنْتُ أَجْلِسُ (بِالأَمْرِ) بَيْنَ بِنْتَيْنِ: وَفَاء بِنْت الأُسْتَاذِ هَوَّارِي، وَنِيرْمِين بِنْت أَبْلَة حَسْنَاء. وَذَلِكَ لِاعْتِقَادِ المُدَرِّسِينَ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ (أَنِّي خَجُولٌ وَعَلَى خُلُقٍ حَمِيدٍ؟؟!!) وَالحَقِيقَةُ أَنِّي كُنْتُ أُعَانِي مِنْ وُجُودِهِمَا مَعِي فِي نَفْسِ (التَّخْتَةِ). (الدِّيسْك) بِلُغَةِ هَذِهِ الأَيَّامِ. فَلَقَدْ كَانَتَا تَتَشَاجَرَانِ مِنْ أَجْلِي، وَأَحْيَانًا مَعِي. وَكُلٌّ مِنْهُمَا تُرِيدُ أَنْ تَسْتَأْثِرَ بِحُظْوَتِي وَاهْتِمَامِي. فَضْلًا عَنْ غَمْزِ وَلَمْزِ بَقِيَّةِ صِبْيَانِ الفَصْلِ، وَسُخْرِيَتِهِمْ وَغَيْظِهِمُ المَكْبُوتِ.
وَمَرَّةً دَخَلَ أ. إِبْرَاهِيمُ الفَصْلَ وَوَجَدَنِي عَلَى حَافَةِ التَّخْتَةِ، وَمَرَّةً فِي الوَسَطِ، وَمَرَّةً أُخْرَى أَكَادُ أَجْلِسُ عَلَى الهَوَاءِ، وَهَذَا بِسَبَبِ مُشَاجَرَاتِهِمَا الَّتِي لَا تَنْتَهِي. وَكُنْتُ أَطْلُبُ مِنْهُمَا أَنْ يَتَوَقَّفَا عَنِ الشِّجَارِ وَيَسْمَحَا لِي بِالجُلُوسِ فِي مَكَانِي جِلْسَةً كَرِيمَةً.
فَسَمِعَنِي أ. إِبْرَاهِيمُ. وَأَعْطَانِي أَوَّلَ وَصِيَّةٍ:
"لَا تَسْتَجْدِ حَقَّكَ، وَلَا تَتَوَسَّلْ إِلَى غَاصِبِ حَقِّكَ، بَلْ مُدَّ يَدَكَ قَوِيَّةً وَخُذْهُ بِقُوَّةٍ. فَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَهُوَ أَشْرَفُ مِنْ أَنْ تَسْتَجْدِيَهُ". اسْتَمَعْتُ إِلَيْهِ. وَكُلُّهُ رِفْقٌ بِي وَحَنَانٌ عَلَيَّ. وَلَكِنَّهُ نَظَرَ إِلَيَّ شَزْرًا مُنْتَظِرًا أَنْ أَفْعَلَ.
وَقَدْ كَانَ. جَلَسْتُ عَلَى التَّخْتَةِ. وَقُمْتُ بِإِزَاحَةِ وَفَاءَ وَنِيرْمِينَ إِلَى الأَرْضِ وَسَطَ ضَحْكَةٍ هَائِلَةٍ لِلأُسْتَاذِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَقِيَّةِ الفَصْلِ.
وَالأَغْرَبُ...
أَنَّ وَفَاءَ وَنِيرْمِينَ أَصْبَحَتَا تَتَسَابَقَانِ لِإِرْضَائِي وَالفَوْزِ بِثَنَائِي عَلَيْهِمَا؟؟؟!
وَهَذِهِ أَوَّلُ وَصِيَّةٍ.
تَحِيَّاتِي وَإِلَى بَاقِي الوَصَايَا.
"دردشة ووشوشة"... ويا لها من وشوشة! ينتمي هذا النص إلى جنس "اللوحة القصصية" (Vignette). إنه ليس مجرد استدعاء عابر للماضي، بل هو "نص تكويني" حيّ، يرسم لحظة فارقة من لحظات الطفولة، تلك اللحظة التي يتحول فيها "الغلام" إلى مدرك.
وها هو ذا بطل المشهد، "الأستاذ إبراهيم". لم يرسمه السارد (شوقي السيد) لنا رجلاً عادياً، بل أعطانا مفتاحه في وصف عبقري: "ذو وجه متغير الملامح". فهو، كالتاريخ نفسه، يجمع النقيضين في آن. هو الطفل البريء إذا ضحك، وهو السماء التي توشك أن تنطبق على الأرض إذا غضب. هذا هو "المُرشد" الذي لا يلقّن تلاميذه العلوم فحسب، بل يمنحهم "وصايا" الحياة.
وما حال السارد في حضرته؟ حاله كحالنا، كحال هذا كل مظلوم طال عليه الأمد ولم ينل حقه. إنه "يكاد يجلس على الهواء". يا له من تعبير دقيق عن "الحق الضائع"! هو موجود، لكنه بلا حيز. هو "الخجول" في أعين المدرسين، وهو "المُعاني" في حقيقة أمره.
هنا، يتدخل الأستاذ إبراهيم، لا ليحل المشكلة بيده – فلو فعل لبقي الفتى في ضعفه – بل ليعطيه "الوصية" الأولى. وهذا هو جوهر النص: "لا تستجدي حقك. ولا تتوسل الي غاصب حقك. بل مد يدك قويه وخذه بقوة".
إنه قانون "الواقعية" (Realpolitik) الذي عرفناه وعركناه في تاريخنا الطويل. الحقوق لا تُستجدى، بل تُنتزع. وياله من درس! لم يكتفِ المعلّم بالكلام، بل "نظر إليه شذراً منتظراً أن يفعل".
وتأتي الذروة. ينزل الستار على الضعف والاستجداء. يقوم الفتى وينفذ الوصية: "قمت بإزاحة وفاء ونيرمين الي الارض". هذا هو الفعل، هذا هو استرداد الحق بقوة اليد. وماذا كانت النتيجة؟ "ضحكة هائلة للأستاذ ابراهيم وبقية الفصل". هذا هو "الإقرار" بالتحول. هذا هو التصفيق لنجاح الدرس.
ولكن، "والأغرب" – كما يلتقطها السارد بذكاء الفنان – هو ما حدث للفتاتين. "اصبحتا تتسابقان لإرضائي". يا للمفارقة! إن القوة (المُحقّة) لم تولّد الكراهية، بل ولّدت الاحترام. لقد انقلبت موازين القوى في لحظة.
نحن إذن لسنا أمام مجرد ذكرى عابرة من الصف الرابع. نحن أمام "قصة تأسيسية"، تكشف عن "صحو" مبكر للوعي. إنها، في النهاية، قطعة من "الأدب المحض"، الذي يحول الخاص إلى عام، ويصوغ من مشهد طفولي حكمة تصلح للتاريخ كله.
#نقاش_دوت_نت
