وعد "روح"
عاشت "روح" سنوات في قفص من زجاج شفاف، بنته بقضبان "اللاءات" وبتكرار "الربما"، الاحتمالات، "ماذا سيقولون"، والأمنيات. خلف هذا الحاجز غير المرئي، تعلمت كيف تخنق أحلامها قبل أن تولد، وتبتلع كلماتها كما تبتلع المرارة في حلقها. لكن خلف هذا السكون، بقي نبض عنيد يذكرها بوعد قطعته على نفسها يوم كانت طفلة بريئة تجري خلف الفراشات.
كل حلم تخلت عنه، كل كلمة لم تُقل، كل نظرة احتقار من المرآة – كانت ودائع جديدة في بنك الدين الذي تراكم في صدرها وعذب قلبها. حتى جاء ذلك اليوم العادي الذي صار استثنائيًا، ليس بحدث كبير، بل ربما بنظرة في المرآة رأت فيها امرأة شاحبة، أو كلمة امتنعت عن البوح بها للمرة الألف. كانت "القشة الأخيرة" التي جعلت الكأس يفيض باليقين، لا بالغضب الدفين.
وقفت أمام باب الألم الذي ظل يفتح لها طوال السنوات، وضعت يدها عليه لثانية، ثم أغلقتْه بهدوء، كمن يمزق حبلاً يلتف حول عنقها. اتجهت إلى النافذة، نفخت عن زجاجها الغبار المتراكم، وفتحته على مصراعيه. دخلت أنسام جديدة تحمل عبير بحر بعيد، وهمسات بأسماء أماكن لم ترتدها بعد.
سارت بخطوات متعثرة، كمن يمشي على جمر بعد طول جلوس، لكن مع كل خطوة كانت تسترد جزءًا من نفسها: بسمة كانت تخجل منها، حلم تركته منذ سنوات، كرامة لم تصنها كما كان يجب. مع كل نفس، تعلمت أن تتنفس من جديد؛ كل شهيق كان تطهيرًا، وكل زفير تحررًا.
لم تعد تبحث عن معبد قدسي، فصدرها أصبح محرابها، وقلبها قبلة عبادتها الجديدة. ها هي تمشي، لا كظل لأحد، بل كإنسان استعاد ملكية نفسه. الحرية لم تعد مكانًا ترنو إليه، بل صارت الطريق نفسه. سددت "روح" دينها، وبدأت أخيرًا تعيش عشق الحرية.
#نقاش_دوت_نت
