الوعي والاغتراب يفاقم الألم والاغتراب لدى الذات الإنسانية
كتاب “Painful Intelligence” (الذكاء المؤلم) لعالِم الأعصاب الفنلندي آبو هيفيارينن Aapo Hyvärinen (جامعة هلسنكي) تقدّم محاولة علميّة–فلسفيّة لربط المعاناة الإنسانية ببنية الذكاء نفسه. هدفه ليس وصف الألم فحسب، بل فهم أسبابه الحسابية واقتراح وسائل لتقليلِه عبر نموذج مستلهم من الذكاء الاصطناعي، مُبيِّنًا كيف يمكن لمبادئ التعلّم الآلي أن تفسّر جانبًا من خبرتنا الوجدانيّة.
الفكرة المحورية
يذهب هيفيارينن إلى أنّ المعاناة ليست لغزًا روحيًا بل نتيجة حتميّة لطبيعة الذكاء: كلُّ كائنٍ عاقل—إنسانًا كان أو آلة—مُصمَّم لمعالجة المعلومات والسعي نحو الأهداف. وحين تفشل الخُطّة أو تخيب التوقّعات، تظهر إشارة خطأ داخل النظام؛ وهذه الإشارة هي جوهر ما نسمّيه المعاناة. فالألم النفسيّ هو ثمن الوعي والقدرة على التعلّم.
المعاناة كآليّة تعلّم
يشبّه المؤلّف الإنسانَ بآلةِ تعلّمٍ تُقلّل باستمرار الفارق بين التنبّؤ والواقع. لكن العالم معقّد والمعلومات ناقصة، لذا فالخطأُ حتميٌّ والإحباطُ متكرّر. هذا الإحباط ليس خللًا بل آليّة تصحيح جوهريّة تدفع العقل إلى إعادة الحسابات والتكيّف—غير أنّ ثمنها ألمٌ ذهنيّ ملازم.
لماذا تتضاعف المعاناة؟
يتّسع الألم لأنّ عقولنا لا تتوقّف عن إعادة تشغيل الماضي ومحاكاة المستقبل: نتخيّل إخفاقاتٍ محتملة كأنها واقعة الآن، فتُعالَج عصبيًا بوزنٍ يقارب الوقائع. يُضاف إلى ذلك تصوّر التهديدات (إحباطٌ استباقي)، ومعمار معالجة موزَّع ومُتوازي يُضعِف الضبط المركزي للانفعالات—فينشأ شعورٌ دائمٌ بـانعدام السيطرة واللايقين.
وعيُ الآلة والمغزى العملي
يعترف هيفيارينن بأنّ الآلة قد لا “تشعر” كالإنسان، لكن هذا الاعتراض غير حاسمٍ عمليًا: فلو أمكن تقليل إشارات الخطأ في منظومةٍ ذكيّة تشبه الإنسان، فالأرجح أن الأساليب نفسها تساعدنا نحن أيضًا؛ لأنّ المعاناة هنا تُفهَم كمخرَجٍ معلوماتيّ قابلٍ للتعديل لا كلغزٍ ميتافيزيقيّ.
طريق التخفيف (إعادة البرمجة)
الخلاصة التطبيقية: إعادة برمجة الدماغ عبر إدخال مدخلاتٍ وخبراتٍ جديدة تُخفِّض التوقّعات المبالغ فيها وشدّة التعلّق، وتُنمّي تقبّل اللايقين. يشبّه المؤلّف ذلك بـ“تغذيةٍ جديدةٍ لشبكةٍ عصبيّة”. وهنا يتقاطع المنظور الحسابي مع البوذية والرواقية: التأمّل الواعي، اقتصاد الرغبة، وصون الانتباه الميتا-معرفي—وكلّها تهدف للتقليل من إشارات الخطأ التي نختبرها كألم.
الخلاصة
كلّما ازداد ذكاؤنا ازدادت قدرتنا على التقاط الفشل—فتتعاظم إشارات الخطأ، أي المعاناة—لكن في المقابل تتّسع فرص الفهم والنمو. لا يدعو الكتاب إلى إلغاء الألم، بل إلى تأطيره وفهمه كمؤشّرٍ تعليميّ يوجّهنا نحو تصميمٍ أفضل لذواتنا ولطرائق عيشنا.
