العرنجيّة
طلعت علينا لغة هجينة يسميها الناس فصحى عصريّة، ونسمّيها عرنجيّة، وما لها حظ من العربيّة إلا حروفها وأصواتها وبقايا من الفصحى. يستعمل الناس العرنجية في الصحف والمقالات وغيرها، عندما لا يريدون الكتابة بالعامية، ظانين أنّها الفصحى وما يدرون أنهم يتكلمون لغة أعجميّة بأصوات عربيّة.
كلمة «عرنجيّة» دمجٌ لكلمتيّ عربيّة وإفرنجيّة، تعبيرًا عن التهجين فيها. وقد سهُل عليها الدخول على الألسنة والأقلام، إذ ظنّوها عربيّةً فصيحةً، وما هي إلّا اقتفاء لمفردات الإفرنج وأساليبهم وتراكيبهم. وسنضرب لك الأمثال في هذه المقالة حتى ترى شدة فساد هذه اللغة.
أشهر مثال تمُجّه الآذان، قولهم: «الخاص بك» الذي جيء به من الأعجميات، إذ ضمائر الملكية عندهم منفصلة وعندنا متصلة، فصاروا يقولون مثلًا: «الجوّال الخاص بك» بدلًا من «جوّالك». فنفروا من ضمائرنا واستحدثوا «الخاص بك» ليكون ضمير ملكية منفصل كما في الإنقليزية.
والذي يُظهر لك اتباع العرنجيّة للغات الأعاجم أن تقارن بينها وبين فصحى القرآن. ولو تأملت لوجدت اختلافًا كثيرًا في أساليب الكلام وتراكيبه ومفرداته. انظر مثلًا قوله تعالى «إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا» وانظر ترجمة الإنقليز إذ قالوا:
(You certainly cannot be patient enough with me)
وأصحاب العرنجيّة لو لم يسمعوا هذه الآية من قبل لقالوا متّبعين الإنجليز: «أنت حقًا لا يمكنك أن تكون صابرًا بما فيه الكفاية معي».
قارن بين لغة القرآن وهذه اللغة، تجد تعابيرها أعجمية على أن ألفاظها عربيّة. وهذا التركيب العرنجيّ المترجم تجده كثيرًا -لو تأملت- في الكتابات العربيّة الحديثة. ولاحظ أنّك ما تكاد ترى أساليب التوكيد كالقسم وحروف التوكيد، بل يسرفون في «جدًّا» و«حقًّا» وأشباهها، كما في المثال السابق.
وانظر إلى قول الصحابي حين أقرأ الناس قراءة لم يعرفها عُمر -رضي الله عنه- فاستدعاه عمر فقال له: «والله يا عمر إنّك لتعلمُ أّني كنت أحضر ويغيبون». لاحظ استعماله للقّسم وإنّ التوكيدية ولام التوكيد، أمّا إن كتبناها بلغة العصر لقلنا: أنت تعلم يا عمر حقًا أنّي كنت أحضر بينما هم يغيبون.
وانظر لحديث الأعرابي لما جاء يتقاضى النبي فقال له: «أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلَّا قَضَيْتَنِي، فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: وَيْحَكَ تَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ؟ قَالَ: إِنِّي أَطْلُبُ حَقِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ؟».
وترجمته:
(Said : “I will make things difficult for you unless you repay me.” His Companions rebuked him and said: “Woe to you, do you know who you are speaking to?” He said: “I am only asking for my rights.” The Prophet said: “Why do you not support the one who has a right?”)
ولو كُتب في عصرنا لكان: «قال له: سأجعل الأمور صعبة عليك إلى أن تعيد إليّ ديني. وبّخه أصحابه وقالوا: ويل لك هل تعلم من الذي تتكلّم معه؟ فقال: أنا فقط أسأل عن حقوقي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لماذا لا تدعمون من معه الحق؟»
والعرنجيّة مطابقة هنا بتمامها للإنجليزية، وهذا الذي كتبناه تراه في كل مكان انتشرت فيه العرنجيّة، كالصحف والكتب والمقالات وغيرها.
ولولا أنّا تعودنا عليها لما فهم أحد منّا هذا الكلام، وإن كان فيه بعض من فصحى. فالعرنجيّة تُسرف من الابتداء بـ«جعل»، لأن الإنجليزية ما فيها صيغة الفعل لكلمات كثيرة فتبعوهم. فمثلًا ما عندهم كلمة «Difficulting»، أمّا عندنا فيصح أن تقول «أُصعّب» لذلك تبعوهم وقالوا: «سأجعل الأمور صعبة».
والإنجليز يكثرون الاستثناء باستعمال لفظة «Only»، فتبعهم أصحاب العرنجيّة وصاروا يستثنون بكلمة «فقط». على أن في اللغة العربية باب كبير اسمه حروف الاستثناء، كقوله تعالى: «إنما أنا بشر مثلكم»، الذي لو كُتب بالعرنجيّة لكان: «أنا فقط بشر مثلكم».
وفي العربيّة عندنا أدوات للتوبيخ منها «هلّا» المذكورة في آخر الحديث، وهذا الأسلوب ليس في الإنقليزية لذلك قال أصحاب العرنجيّة متّبعينهم «لماذا لا تدعمون..».
#نقاش_دوت_نت
