كرسي في غرفة مشتركة: رصد لأصوات الوجع والأمل
تأملات من غرف المرضى
أجلـسُ الى كرسي في غرفة المرضى المشتركة،تلتقط الأذن كل شيء تسمعه .. الصراخ .. التأوّهات .. الخلاف الحادّ بين المريض والطاقم الطبي .. حتى الأحاديث الجانبية تتسلل من بين الستائر المرخاة إلى الأذن فتتفاعل معها وتحلل وقائعها وتفكك خيوطها وقد تتمنى مشاركتهم الحديث لولا حرج الإصغاء بغير إذن .
في الغرفة المقابلة مريضٌ يبدو أنه كبيرٌ في السنّ يصرخُ متوعّكاً من رجله صراخاً يبدّدُ حالة الصمت والهدوء ..هنا يصبحُ للألم قدسية .. لا نملك إلا أن نتأمل هذا الألم الممض ونتماهى مع المريض تخفيفاً ومواساة بالدعاء والتوجّع معه بصدق .
في الغرفة المشتركة رجلان يتحادثان ويتضاحكان ..يحكي أحدهم حكاية باللهجة العامية الصرفة ، ثم يدسُّ في الكلام العاميّ كلمة فصيحة ، تعجبت من انتقائه هذه اللفظة الرشيقة وكيف اعترضت كلامه العاميّ فنشرت فيه جمال اللفظ وبديع التصوير ثم عاد أدراجه إلى عاميته المعهودة .
في هذا المكان تصبح للحكايات نشوة خاصّة لأنها تنتقى بعناية بغية التخفيف عن المريض ودعوته إلى التفاؤل حتى يتماثل إلى الشفاء وأن الأماكن التي كان يقصدها ويقيم فيها تشتاقه كما تشتاق الشجرة اليابسة إلى قطر المطر .
قليلٌ من الناس من يملك مهارة قيادة دفّة الحديث والإنتقال بالمريض من السوداوية والظلام والوحدة إلى أفق الأنس وصناعة الأمل واجترار النكت والطرائف وابتعاث اللطائف والضحكات .
قرأت في أحد الكتب أن في الحضارة الإسلامية القديمة كانت أحد مصارف الوقف مخصصّة لبعض الحكّائين يطوفون بالمستشفيات يقصّون على المرضى القصص والحكايات والمسلّية حتى لا تؤذيهم وحشة المستشفى .
سمعت أحد المرضى مهددًا أحد الممرضين : إذا ارتفع الضغط عندي قد أرتكب أي شيء .. فاحذر !
للمريض أسبابه التي تدفعه إلى الغضب أحيانًا .. ولكن مهارة الطبيب أو الممرض في الإحتواء وامتصاص الغضب تصبح أولوية قصوى في هذه المواقف .
كل إنسان في هذا المستشفى له وجعه الخاص وألمه الشخصي.. نحن بحاجةٍ إلى مؤلفات تتناول هذه الموضوع .. سيكولوجية المريض .. تبحث هذه الدراسة في نفسية المريض ومما يخاف وكيف نتفهم شعوره وألمه مع الإلمام بتاريخه المرضي وفهم البيئة التي ينتمي إليها والثقافة التي ترفده بأفكارها ومنطلقاتها .
البعض يعاني من رشح الزكام ولكنه يبالغ في تصوير هذه الوعكة .. مبالغته قد لا نفهمها من الناحية الطبية ولكن نلتمس له العذر حين ندرك دوافعه التي قد تغيب عنّا إما بحاجته أن يشعر الآخرون به أو صفاته النفسية التي تطغى على شخصيته كالقلق والإكتئاب .
أفراد الطاقم الطبي بشرٌ لهم آمالهم وأحلامهم ويعيشون في حدود يومهم ويتفاعلون مع كل ما يطرأ في الحياة من أحداث ووقائع وأخبار .. حتى ضحكاتهم فيما بينهم قد تفسّر من المرضى أنها تهوين واستنقاص من ألمه وكأن عليهم أن يكونوا في حالة دائمة من الوجوم وتقطيب الجبين .
محمد الندابي
يُعدّ النص الذي ألَّفه محمد راشد الندابي، والمعنون بـ "تأملات من غرف المرضى"، نصًّا نموذجيًايندرج ضمن "أدب المستشفيات" (Hospital Literature)، وهو فرع من أدب المرض (Illness Narratives) الذي يتناول تجربة المرض والمكوث في المؤسسات الطبية.
النص على قصره يقدم تأملات ذاتية عميقة للبيئة المحيطة، وهو ما يميز هذا النوع الأدبي الذي لا يقتصر على وصف المرض الجسدي بل يمتد إلى تحليل التجربة الإنسانية للمريض والبيئة العلاجية.
الراوي هنا ليس مجرد مريض، بل هو "المتأمل الشاهد" الذي يتخذ من "كرسي في غرفة المرضى المشتركة" نقطة انطلاق لرصد العالم المصغّر للمستشفى.
يُسجّل النص ما تتلقاه حاسة "السمع"، حيث "تلتقط الأذن كل شيء"، وهذا التركيز على الأصوات (الصراخ، التأوهات، الأحاديث الجانبية) يكسر جدار الصمت المفروض ويجعل من الغرفة مسرحاً للحياة.
يلتقط النص مشهد صراخ المريض الكبير في السن ليمنح "الألم قدسية"، وهي فكرة عميقة في أدب المرض حيث لا يُنظر إلى الوجع كعارض سلبي فحسب، بل بوصفه وجودية تدعو إلى التأمل والتعاطف ("نتماهى مع المريض تخفيفاً
ومواساة"
ومن أشهر ما يندرج في هذا الصنف من الأدب شعرًا ما قاله المتنبي عما ألَّم به من أوجاع الحمى، وجدارية محمود درويش، ونثرًا سيرة الصحفي المصري الراحل محمد أبو الغيط "أنا قادم أيها الضوء".
#نقاش_دوت_نت
