من نحن اتصل بنا سياسة الخصوصية
×

الجلابية البلدي؟!

سليم عزوز
الجلابية البلدي؟!


إكرامًا «لعظم التربة»، فليس لمثلي أن يقسو على ابنة الدكتور فرج فودة، وإن قست على نفسها وعلى أبيها فاستدعته في سياق غير سياقه، وبدا ما قالته واستنفرت به الرأي العام كأنه موقف له يحمل ازدراء لـ «الجلابية / الجلباب البلدي»!

فقد نجحت الدعاية للمتحف المصري الجديد في حشد كثيرين لزيارته، والتقطت الكاميرا أحد أبناء الصعيد بجلبابه، وبجانبه زوجته بزي ريفي بسيط، لكن سمر فرج فودة لم تفوّت الفرصة، فقد كتبت أن هذا ليس زي المصريين، وكررت أسطوانة مشروخة في هذا الصدد عن مصر في زمن الأربعينات والخمسينات، حيث شياكة رجالها، عندما كانت الأنثى لا تزال أنثى أكثر شياكة من فتيات باريس، كما أن رجالها كانوا أشيك من ملوك إنجلترا، قبل أن تعلّق على الصور المتداولة للصعيدي وزوجته، بأن هؤلاء لا يمثلون مصر، فحتى فلاحات مصر كُنّ «شيك وستايل متفرد»!

وانفجرت منصات التواصل الاجتماعي بالتنديد بما قالت، وكل من لديه جلبابًا بلديًا أخرجه وقام بارتدائه ونشر صورته به، اعتزازًا بمكانته، أو تأكيدًا على انتماء يشرف المنتمي، فضلًا عن كلمات الاحتفاء والتأييد للرجل وزوجته، من ظهرا بهذا المشهد اللافت والأنيق، وعبّروا عن أن رسالة المتحف المصري الجديد وصلت لكل المصريين، وليس لفئات بعينها.

وبدت صاحبة المنشور تقف وحدها في الميدان، ولعلها كانت تنتظر أن تجد فريقًا من الناس يؤوب معها، ولعلها وجدت سعادة غامرة بردّة الفعل هذه، وهي منذ سنوات عدة تحاول أن تكون أبيها، ولأن زادها من الأفكار قليل، فلم تحقق حضورًا يُذكر، وقد جربت حظها وفشلت، وهي أزمة ثلاثة من بنات المشهورين السابقين، إذ اعتبرن أن العبقرية تورث، وأن الشهرة ستنتقل لهن ضمن ما تركه الفقيد، بعد استخراج «إعلام الوراثة»، فكان أداؤهن يدخل في باب الشغب المحدود!

ربما ترى سمر فرج فودة أن لديها ثأرًا مع الجماعات الدينية، ومن قتلوا والدها ينتمون إليها، فتسعى للاشتباك معهم، فلا تثير انتباه أحد، ولو عكفت على دراسة كتبه فربما تمكنت من أن ترثه فعلًا لكنها تردد «محفوظات» بدون التركيز الكافي، فتبدو كحافظة لنشيد تسمعه في كلمة الصباح في طابور المدرسة، مثل استدعاء الحديث الممل عن «الغزو الوهابي» الذي انتقل بالمصريين من فساتين الأربعينات والخمسينات وشياكة رجالها وأنوثة نسائها، لتكون على هذا الصورة المنشورة من المتحف الجديد!

ولم تدرك أنه الاستدعاء القسري لكلام ممل، لأن كثيرين وإن ارتفعوا للمناصب العليا فإن أهلهم من هؤلاء، وأنهم لا يجدون غضاضة إذا عادوا لقراهم أن يرتدوا ما كان يرتدي الرجل، وكلفة هذا الجلباب، قماشًا وتفصيلًا، قد تعادل ثمن ثلاث بدل من النوع الفاخر!

وليس في كل مرة تسلم الجرة، فالمشاغبات لا تصلح في مجال الفكر، وسمر مشاغبة بطبعها، وقد تركها والدها فتاة صغيرة، ولم تهيئها الظروف أن تصاحبه لتكون مثله، ولعلها في هذا السن المبكر لم تكن مشغولة بالأفكار والمواجهات الفكرية، فحتى في ندوة معرض الكتاب الشهيرة لم يصحبها معه، وإنما اصطحب ياسمين؛ آخر العنقود، كما لم يصطحب ولديه «ياسر» و«أحمد»، انظر إلى الأسماء لتقف سمر على أن والدها لم يكن خواجة منفصلًا عن بيئته!

ولو كان الدكتور فرج فودة يعيش بيننا الآن، لوضعه منشور سمر في حرج بالغ، ولأعتبره نوعًا من المشاغبات القديمة التي وضعته في حرج، وقد كان خجولًا؛ وهو جانب غير ظاهر في شخصيته إلا للمقرّبين منه، وقد أحرجه شغب سمر مع مديرة مدرستها، والتي قررت ألا تعود إلا بحضور وليّ أمرها!

وعندما كان يكتب في جريدة «الأحرار» كتب مقالًا عن موقف هكذا ربما لم يكن الأخير، فقد ذهب للمديرة واقترب منها وكانت تقف في فناء المدرسة مع بعض العاملين، فلم يجد منها ترحيبًا، فتراجع خطوتين للخلف حتى تنتهي، ليجد أن عدم الاكتراث مردّه إلى حالة الغضب التي تتملكها، واعتذر لها ولم يُزل هذا الجفوة، وكان رأيه أن على المعلمة أن تستوعب تمرد تلميذة في عمر سمر، وفي المقال التالي كتب عن الذين اتصلوا به وكان منهم وزير التعليم حسين كامل بهاء الدين، كما اتصل به مثقفون يطيبون خاطره ذكرهم بالاسم!

ومن حق سمر فرج فودة أن ترى أن فيها من روح والدها، وكل فتاة بأبيها معجبة، شرط أن تكون في مستوى هذا الأب، ولا تمارس مثل هذه القضايا على قواعد شغبها في مدرستها، فتقع في شرّ أعمالها كما وقعت، ويبدو ردّ الاعتبار للجلابية البلدي كما لو كان من المعلوم من الوطنية بالضرورة، وكما لو كان القائل هو فرج فودة وليست المشاغبة سمر!

فالجلباب البلدي ليس دخيلًا على مصر، ولو قرأت كتاب «عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم ما بين 1832 - 1835» لإدوارد وليم لاين لعلمت أن جلباب بلدياتنا الذي رأته فهبت مستنفرة، هو الامتداد للجلباب في هذه الفترة. وقد عاصرت أنا مرحلة سابقة لهذا الجلباب قبل الوصول إلى أناقته التي رأت ورأينا، وأن لباس زوجته لا يمت للغزو الوهابي بصلة، فلا تهرف بما لا تعرف.

والكتاب ينشر رسومات لكل النماذج التي ذكرت عن حال المصريين، فبعد أن أفاض في ملابس المرأة المصرية، انتقل إلى ما وصفه بملابس التجوال، وهي «التزيرة»: «ففي كل مرة تغادر المرأة منزلتها ترتدي إضافة إلى ما أوردت وصفه آنفًا التوب والسبلة وهو رداء واسع فضفاض يضاهي وسع أكمامه تقريبًا طول الرداء... يلي التوب البرقع المتمثل بشقة طويلة من الموسيلين الأبيض تغطي الوجه برمته عدا العينين وتكاد تلامس القدمين».

وقد أسرف علماء الاجتماع والأنثروبولوجي في حديث الملابس وكيف أنها جزء من عرض الذات في الحياة اليومية، وأنه نظام رمزي وثقافي يعكس هوية المجتمع وقيمه وبيئته الاجتماعية!

وقد تعرفت على عمة سمر، وشقيقة الدكتور فرج فودة الحاجة «راوية»، وكانت سيدة محجبة، ولو خطفت رجلها إلى مسقط رأس والدها في دمياط، ورأت صورة الجد والجدة والأهل، فربما لم تشعر بهذا الاغتراب والفزع فاعتبرته الغزو الوهابي، ومن ثم اندفعت تقول كلامًا جاهلًا كالذي قالته!

لقد كان الرئيس السادات يرتدي الجلباب البلدي في قريته، ورآه العالم كله بها، اعتزازًا بهذا الانتماء للريف!

فهل كان السادات متأثرًا بالغزو الوهابي؟!