أدب المستشفيات: نظرة الباحث في مرآة الحياة
صورة من أدب المستشفيات رسمها محمد راشد الندابي بصدق مرهف، تكشف كشفًا تامًا عن ملامح نفسية واجتماعية وفنية:
من وحي المستشفيات
أقضي هذه الساعات بين ردهات المستشفى وأسمع رنين المنبّهات وصليل الأجهزة وأنين المرضى .. وعلى مقربة منا غرف المرضى هناك الشارع العام حين تموج الدنيا بالصخب احتفالاً باليوم الوطني ..هناك الزغاريد والأعلام والرقصات والضحكات العالية .. وهنا الألم والبكاء والوحشة والظلام .. مفارقات الحياة ولكنها السنة التي تمضي بها الدنيا ..
ولكن ذلك الصخب سينتهي قبل حلول الفجر ويمضي كل واحد إلى بيته يلتحف الصمت ويتوسد الأرض وقد يندم على الساعات الطويلة التي بددها في الشارع من غير كسب معرفة أو جني منفعة .. أما هنا في هذا المستشفى فإنه الألم والوجع لا يزولان بحلول الفجر ولا بانقشاع الظلام إلا أن يهب الله لعباده الشفاء التام والعافية الكاملة .. هنا ميدان الصبر الذي تختبر فيه النفوس وتصهر فيه المعادن ويستلهم المريض الدروس والعبر ويعرف موقعه في قلوب أحبابه وأصحابه .
رجعت إلى ذات المكان الذي زرته قبل مدة .. ولكنه هذه المرة قد فارقه شخصان إلى رحمة الله ورضوانه وحلّ مكانهما آخران يتلقيان العلاج .
مهما اتخذ الشخص من مؤنسات ومسلّيات وملهيات فلا أجمل من صحبة كتاب في هذه الغرف، فإن للرواية والشعر في هذه الظروف مجالاً أرحب للتنفيس عن الروح، أما الكتب الفكرية فإنها تستوجب قدراً من الصفاء وحضور الذهن وهو ما يصعب استحضاره في هذا المكان .
نشأت صداقة بين مرافق أحد المرضى وبين رجل الأمن .. هنا يبدأ الحديث عن المنع والرفض والقانون من موظف الأمن بحكم عمله .. ولكنه كإنسان يحب أن يتحدث في جوانب اجتماعية وإنسانية .. يبدأ الحديث عن القبيلة التي لطالما كانت مدخلاً يدلف إليه الناس إلى الحوار العام .. اسم القبيلة يعطي انطباعاً عامّا عن هذا الإنسان وأين يسكن ومن هم معارفه .. يستلذ الكثيرون الخوض في حديث التعارف هذا لأنه يربط الإنسان بأسلافه وقومه وأهله … هنا تتجسد آية التعارف بين الشعوب والبشر .
محمد الندابي
نحن هنا أمام مفارقة عظيمة، هي كُنه الحياة ذاتها: ففي الوقت الذي تموج فيه الدنيا في "الشارع العام" بالصخب احتفالاً باليوم الوطني، والزغاريد، والرقصات، والضحكات العالية؛ يسود "ردهات المستشفى" الألم والبكاء والوحشة والظلام. هذا التناقض الحاد، بين "الميدان" الذي تُصهر فيه المعادن وتُختبر فيه النفوس، وبين "الشارع" الذي يُبدَّد فيه الوقت في غير كسب معرفة أو جني منفعة، هو ما يشغل الأديب ويثير مشاعره. إنها مفارقات الحياة، ولكنها السُّنَّة التي تمضي بها الدنيا، وهي التي تهدينا إلى معنى ذهني خُلقي تهذيبي، حيث يصبح المستشفى ساحة اختبار للصبر، الذي هو أول الفضائل.
يشير النص إلى أن صخب الشارع سينتهي قبل حلول الفجر، وقد يندم المشاركون فيه على الساعات الطويلة التي بددها في غير كسب معرفة أو جني منفعة. أما في المستشفى، فإن الألم والوجع لا يزولان إلا أن يهب الله الشفاء التام والعافية الكاملة. هذا يتماس مع ما كان عليه حال عرب الجاهلية، حيث كان الشاعر يرى العيش كنزاً ناقصاً ينفد بمرور الأيام. لقد أشاد العرب بـ الكرم والشجاعة في الحياة البدوية القاسية ، ولكن المستشفى هو ميدان الصبر الذي تختبر فيه النفوس وتصهر فيه المعادن، ويستلهم المريض منه الدروس والعبر، ويعرف موقعه في قلوب أحبابه وأصحابه. كما أن الزوال المادي للحياة يتجسد في زوال من فارقوا المكان إلى رحمة الله وحلول آخرين يتلقون العلاج مكانهم.
يُقدّم الكاتب تصوّراً دقيقاً لوظيفة الأدب والكتاب في هذا "الوسط الزماني والمكاني" الفريد. فمهما اتخذ الشخص من مؤنسات ومسليات وملهيات، فإنه لا أجمل من صحبة كتاب في غرف المرض. وتختلف الوظيفة تبعاً للغرض الأدبي، فلرواية والشعر: لهما مجال أرحب للتنفيس عن الروح في هذه الظروف ، وهي وظيفة ترتقي بالعواطف والمشاعر، أما الكتب الفكرية فستوجب قدراً من الصفاء وحضور الذهن ، وهو ما يصعب استحضاره في هذا المكان؛ الأمر الذي يوكد أن الأدب الخالص لا يخضع خضوعًا مطلقًا للقواعد العلمية، بل يظل خاضعًا لـ الذوق ونفاذ البصيرة والإحساس المرهف.
أما اللمحة الاجتماعية البارزة، فهي تلك الصداقة التي نشأت بين مرافق المريض ورجل الأمن، والتي يبدأ مدخلها المألوف: القبيلة. إذ كان اسم القبيلة، عند البدء بالحديث، مدخلاً يدلف إليه الناس إلى الحوار العام. إن "القبيلة لطالما كانت مدخلاً يدلف إليه الناس إلى الحوار العام"، و"يستلذ الكثيرون الخوض في حديث التعارف هذا لأنه يربط الإنسان بأسلافه وقومه وأهله". هذا الاستلذاذ هو امتداد لـ العصبية القبلية التي كانت الرباط الموثق بين أفراد القبيلة في الأزمان الماضية. لكن النص يرتقي بهذه العصبية من مفهوم "الدم الواحد" إلى آفاق أسمى، لتتجسد فيها "آية التعارف بين الشعوب والبشر" ؛ الأمرالذي يمثل الدور العظيم للإسلام الذي وحّد الكلمة، وجعل الأفراد يتساوون في الحقوق.
إن هذا النص، وإن كان قصيرًا، إلا أنه يُعدّ بسطاً مفصلاً دقيقاً لتجربة إنسانية خالصة. هو ليس مجرد رصد، بل هو تحليل عميق لمفارقات الحياة وتطور النفس البشرية أمام محكّ الألم. إنه أدبٌ ينهض بالعبء ليُسجل لنا كيف تكون النفس البشرية في مواجهة الوجع والابتلاء.
#نقاش_دوت_نت
النداوي، رنين المنبهات، مفارقات الحياة، الوسط الزماني والمكاني، مفارقات الحياة
