من نحن اتصل بنا سياسة الخصوصية
×

راسبوتن ولغز سقوط روسيا

محمد السليم
راسبوتن ولغز سقوط روسيا


 تم إغراء راسبوتين لأول مرة في القبو ، وعولج بالنبيذ الأحمر وفطيرة مسمومة بسيانيد البوتاسيوم. صعد يوسوبوف إلى الطابق العلوي ، وعاد ، وأطلق النار عليه في ظهره ، مما تسبب في سقوطه. خرج المتآمرون إلى الشارع. يوسوبوف ، الذي عاد من أجل عباءة ، فحص الجثة ، فجأة استيقظ راسبوتين وحاول خنق القاتل. بدأ المتآمرون الذين ركضوا في تلك اللحظة بإطلاق النار على راسبوتين. عند الاقتراب ، فوجئوا بأنه لا يزال على قيد الحياة ، وبدأوا في ضربه. وبحسب القتلة ، فقد عاد راسبوتين المسموم والرصاص إلى رشده وخرج من القبو وحاول التسلق فوق الجدار العالي للحديقة ، لكن القتلة أمسكوا به ، وسمعوا نباح الكلب المتصاعد. ثم تم ربطه بحبال على يديه وقدميه (وفقًا لما ذكره بوريشكيفيتش ، تم لفه أولاً بقطعة قماش زرقاء) ، وتم نقله بالسيارة إلى مكان محدد مسبقًا بالقرب من جزيرة كاميني وألقي به من الجسر في حفرة نيفا في مثل هذا الطريقة التي كان بها الجسد تحت الجليد.




قصر يوسوبوف حيث قتل راسبوتين. 



‏في أقصى سيبيريا حيث تبدو الأرض كأنها صفحة بيضاء خالية إلا من خطوط يتركها الهواء على الثلج، نشأ راسبوتين داخل قرية خشبية صغيرة تحاصرها الرياح وتطحنها العواصف ليلا. كان المكان يعيش نصف العام في ظلمة جليدية، يتجمد فيها النهر كأنه زجاج، وتخفت أصوات البشر حتى تسمع كل حركة وكأنها قادمة من عمق الأرض. بين هؤلاء الفلاحين، الذين لا يعرفون غير الزراعة البدائية والصلوات الشعبية الموروثة كبر غريغوري بصمت أثقل من البرد نفسه.

لم يكن طفلا عاديا كانت عيناه منذ الصغر لا تزوران، نظرة ثابتة تزيد حدتها كلما طال الصمت، تجعل من يقف أمامه يشعر كأنه مفضوح أمام مرآة لا ترحم.

ومع مرور السنوات صار أهل القرية يطرقون بابه حين يمرض طفل أو تنهار دابة أو تفزع امرأة من حلم ثقيل لم يكن يملك علما، لكنه كان يملك حضورا غير مألوف حضورا يجعل الهواء من حوله يبرد أكثر، ويجعل القلق ينكمش دون أن يفهم أحد السبب. كان يجلس أمام المريض بهدوءٍ مرعب يضع يده ببطء، وينظر نظرة طويلة لا ترمش… نظرة تجعل القلب يهدأ رغم خوفه. كانوا يعودون إلى بيوتهم وهم لا يعرفون ماذا فعل، لكنهم يصرّون على أنه فعل شيئا .



جريجوري راسبوتين 

كبر راسبوتين وبدأ يتنقل بين الأديرة الصغيرة في سيبيريا، أديرة مبنية من الخشب المتآكل، يحيط بها صمت يشبه صمت المقابر. كان يدخل على الرهبان، يجلس معهم طويلا، يسمع تراتيلهم وكأنها تأتي من مكان أبعد من الجدران، ويحاول تقليد صلواتهم ثم يغادر. لم يتعلم رسميا، لكنه خرج من تلك الرحلات محملا بشيء أشد غموضًا من السابق؛ شيء يجعل خطواته أبطأ، ونظراته أطول، وسكوته أكثر امتلاء مما يحتمله البشر. بدأت شهرته الأولى من هنا خصوصا بين النساء اللواتي كن يشعرن أن عينيه تمسك الحزن من جذوره، وتخمد الألم كما تخمد النار بقبضة واحدة.

ولما وصل إلى سان بطرسبرج تغير مساره تماما. المدينة، التي كانت ممزقة بين الترف الغارق والحرب التي تلتهم شبابها، كانت تبحث عن أي شخصية تكسر الجمود الروحي. فدخل راسبوتين صالونات الأرستقراطيات كما لو أنه قادم من نبوءة قديمة؛ بثوبه الخشن، شعره الطويل غير المرتب، ووجهه الذي لا يشبه رجال العاصمة. وحين جلس، لم يفعل شيئا كبيرا… فقط نظر. نظرة واحدة طويلة كانت كافية لأن يرتبك قلب امرأة لها عشرات الخدم، وكأن عينيه تخمد دفاعاتها لحظة واحدة تكفي ليبدو العالم كله أقل صلابة

انتشر اسمه بين النساء سريعا، حتى وصل إلى القصر القيصري. وحين استدعته القيصرة ألكسندرا بسبب مرض ولي العهد، دخل راسبوتين الغرفة بخطى هادئة، كأن الأرض نفسها تبطئ تحت قدميه. وقف أمام الطفل الشاحب، وضع يده ببطء على رأسه، ثم انحنت عيناه عليه نظرة عميقة طويلة ثابتة… نظرة جعلت الأطباء يتوقفون عن الكلام، وجعلت القيصرة تشعر بأن الغرفة كلها تغير هواؤها. بعد دقائق هدأ الطفل، وكأن شيئا خفيا انسحب من جسده. لم يفهم أحد ما حدث، لكن تلك اللحظة كانت كافية لتؤمن القيصرة أن هذا الرجل يحمل سرًا لا يملكه غيره.

منذ تلك الليلة، صار يدخل القصر بلا حواجز يجلس مع القيصرة في مجلس خاص، يتكلم قليلا، لكنه يترك خلفه أثرا ثقيلا في القرارات كان نفوذه يتسلّل مثل ظل طوي تعيين وزير، عزل آخر، تهدئة حملة عسكرية، أو تغيير اتجاه قرار إداري يمس العاصمة. وكلما ازدادت خسائر روسيا في الحرب، ازدادت حاجة القيصرة إليه، وازداد خوف رجال الدولة منه.

وفي داخل القصر، كانت نساء البلاط يتأرجحن بين الخوف والفضول. بعضهن كان يشعر أن عينيه تُسقط الأقنعة من أعمق مكان في النفس، وبعضهن كن يعودن إلى غرفهن وهن غير قادرات على تفسير الانجذاب الذي يثيره هذا الرجل السيبيري الخشن لم يكن وسيماً ولا أنيقا، لكن شيئا في عينيه يجمد المقاومة، ويجعل المكان يتقلص حوله لحظة واحدة تكفي لأن يشعر الآخر بأنه ضعيف أمامه.

ومع تضخم الأسطورة، تضخمت نقمة النبلاء. رأى الأمير فيليكس يوسوبوف ورجاله أن وجود راسبوتين صار تهديدا مباشرا.

وفي ليلة ديسمبر عام ١٩١٦، دعوه إلى قصرهم، دخل راسبوتن بهدوء جلس في الغرفة السفلية تحت الأضواء الباهتة ونظر إليهم نظرة كشفت خوفهم قبل أن ينطقوا قدّموا له كعكا ممزوجا بالسم، لكنه ظل ثابتا.

ارتبك يوسوبوف، فاقترب وأطلق النار. سقط راسبوتين، لكن حين عادوا وجدوه يحاول النهوض، بعينين نصف مفتوحتين، ثابتتين، كأنهما ما زالتا تحملان شيئًا لا يموت. فصبوا عليه الرصاص ثم سحبوه إلى النهر المتجمد ورموه تحت الجليد

ومع الفجر، انتشرت الحكاية بأن الرجل لم يمت بالسم ولا بالرصاص. وفي القصر ساد صمت ثقيل وفي الجبهة سمع الجنود الخبر كأنه علامة إضافية على انهيار الدولة. وبعد أشهر قليلة سقطت الإمبراطورية، وبقي راسبوتين جزءا من اللغز الذي سبق السقوط؛ رجل خرج من قرية لا تذكر على الخرائط، وصعد إلى قلب دولة عظيمة ثم مات في ليلة واحدة… لكن حضور عينيه ظل يطارد ذاكرة روسيا لسنوات طويلة.

#نقاش_دوت_نت 

جريجوري، سيبيريا، بطرسبرج، الجمود الروحي، ألكسندرا، خسائر روسيا الحربية، رجال الدولة، تضخم الأسطورة، نقمة النبلاء