من نحن اتصل بنا سياسة الخصوصية
×

حين بحثت مصر القديمة عن الله ..كان العالم يبحث عن أشياء أخرى

طارق القاضى
حين بحثت مصر القديمة عن الله ..كان العالم يبحث عن أشياء أخرى



بينما كانت مصر القديمة تبحث عن الله عن الحق وعن معنى الحياة والروح كان العالم في أماكن أخرى منشغلا بما يزول بسرعة بما هو دنيوي بما يغلق أبواب القلب والعقل اشباع الشهوات هنا تكمن المفارقة الكبرى ففي أرض النيل كان الانسان يسأل ويستقصي ويبحث عن الحقيقة بينما في بقية الأرض كان البحث محصورا في الملذات العابرة وهكذا ولد الفرق العظيم بين المصري القديم الذي تفتحت فطرته على سؤال الله وبين شعوب أخرى لم يعرف قلبها نور الحق بعد

منذ فجر الانسانية الأولى كانت في قلب المصري شعلة لا تنطفئ تسأل ولا تكف عن السؤال وقبل أن يبعث الانبياء أو تنزل الكتب كان هذا الانسان القديم ينظر إلى الكون بعين مفتوحة على الدهشة يرى في كل نجم آية وفي كل نسمة سرا من اسرار الخلق لم يكن كافرا كما توهم البعض بل مؤمنا تائها بين الرموز يبحث عن الحقيقة في كل ما حوله ومن الظلم أن يدان من ظل يبحث وأن يوصم بالكفر من كان يسعى إلى الله بجهده المحدود وفطرته الصافية فالايمان الذي ولد في مصر لم يكن استجابة لرسول أتى من بعيد بل نداء داخلي خرج من أعماق الأرض نحو السماء وحين جاء الوحي فيما بعد وجد في أرض النيل قلوبا تعرف الصوت وتعرف الطريق

منذ أن انبثق فجر الحضارة كانت مصر قلبا يخفق بالأسئلة الكبرى من أنا ومن خلق هذا النور وإلى أين تذهب الروح بعد الموت لم ينتظر المصري القديم رسولا ليوقظه بل ولدت في داخله فطرة الإيمان قبل أن تنزل الكتب رفع عينيه إلى الشمس فرأى فيها أثر الخالق ونظر إلى النيل فشعر أنه نهر من رحمة الله يجرى في عروق الأرض وهكذا نشأت أولى عقائد المصريين من شوق فطري إلى الإله الواحد لا من خوف أو طمع بل من حب ورغبة في الخلود. 

لم يكن المصري القديم عابد حجر كما يظن بعض المشايخ ذوو العقول محدودة الأفق الفكري المصري القديم كان باحثا عن المعنى في الصور والرموز كل تمثال وكل طقس كان محاولة لتقريب الصورة إلى العقل والروح نحو فهم أعمق كان يؤمن أن وراء كل قوة في الكون خالقا أعظم وأن العدل هو وجه الله على الأرض وأن الروح لا تموت بل تحاسب على ما قدمت من خير أو شر.

فكيف لهذه الفطرة الصافية التي بحثت عن الله وابتكرت أفكار الإيمان الأولى مثل ميزان ماعت وتجعل القلب يوزن أمام ريشة العدالة ايمانا بأن الانسان ليس جسدا بل روحا خالدة في حضرة الحق الأعلى من هذه الفطرة الصافية نشأت بذور الفلسفة الدينية الأولى في التاريخ قبل أن تنزل الرسالات السماوية بزمن طويل وظل تراث المصري القديم حول فلسفة الدين موجودا معه عبر تسلسل الأيام أصوات تعلو حينا وتخفت حينا ولكنها لا تنقطع.




ثم أشرق في أرض النيل رجل من نسل الأنباء هو إدريس عليه السلام أول من جمع بين العلم والوحي بين الفلك والكتاب في مصر علم الناس أن العلم عبادة وأن الكون كتاب إلهي مفتوح وأن النجوم دلائل على نظام الخالق لا آلهة تُعبد فغرس في القلوب أول يقين بأن وراء كل شيء خالق واحد وأن العدالة طريق النجاة من نفس البذرة الصافية. 

عرف المصريون أيضا تحوت رب الحكمة والكتابة ورأوا فيه حارس المعرفة وعالم الكتابة القديمة الذي علم الناس تفسير الرموز وفهم اسرار الكون

في مدينة أون القديمة عين شمس حاليا أقام المصري القديم أول معهد للعلم والايمان معا ما عرف لاحقا بجامعة أون كان تجمع بين دراسة الفلك والهندسة والكلمة المقدسة ومن تلك الجامعة انطلقت تعاليم الخلق والميزان والبعث التي صارت اساس العقيدة المصرية القديمة لقد كانت مصر أول أرض وحدت بين الفكر والروح والعلم والدين والانسان والسماء.

ومضت القرون على مصر وصوت الدين نابع من فطرتها الأولى حتى دخلها يوسف عليه السلام يحمل من نور الوحي ما يبدد ظلمات القصور ومنافع الكهنة دخلها غريبا بدين جديد لكنه وجد في المصريين قلوبا تعرف قيمة الصدق والايمان منذ فطرتها الأولى فعرفوه من نوره رغم أنه دخلها عبدا لم يعرفوه من نسبه وحين فسر حلم الملك وأقام نظام العدالة الاقتصادية قال له الملك انك اليوم لدينا مكين أمين.

وهنا تجلى أرفع ما في الشخصية المصرية احترام المختلف وتقدير الكفاءة والحق فقد حكم يوسف أرضا لا تشاركه عقيدته ومع ذلك وثق به المصريون وجعلوه وزيرهم الأول لأنهم رأوا فيه العدل والرحمة وهما جوهر الدين الذي آمنوا به بفطرتهم منذ القدم، جوهر ماعت وجوهر ميزان الحساب الريشة والقلب إن هذه القصة ليست صفحة من التاريخ بل برهان على أن مصر كانت وما زالت أرضا تحتضن المختلف وترى في كل رسول أو حكيم مرآة لضميرها القديم الباحث عن الله 

ثم جاء اخناتون بعد يوسف بأجيال فسمع في أعماقه صدى ذلك الايمان القديم تأمل الشمس وقال ليس هذا النور إلا وجه الاله الواحد فدعا قومه إلى عبادة اتون النور الذي لا يغيب ورفض عبادة الصور والتماثيل كان ملكا لكنه صار ناسكا في قصره مؤمنا بأن الله لا يُعبد في المعبد بل في القلب لم يكن نبيا بالوحي بل مؤمنا بالفطرة الأولى التي ورثها من جذور مصر فجر الضمير الإنساني ومن أنوار ادريس ويوسف التي لم تنطفئ

وحين تشوهت الفطرة وطغى الجبروت على يد الهكسوس باحتلال دلتا مصر انتشر الخراب والجوع والظلم وغابت قيم العدل والخير فبعث الله موسى ليعيد النور إلى الأرض التي كانت نبع الحق والضمير منذ فجر التاريخ فنشأ نبي الله موسى عليه السلام في قصر فرعون طفلا صغيرا لكنه سمع نداء السماء اذهب إلى فرعون إنه طغى فقال أمام الملوك والكهنة ربي الله رب العالمين فاهتزت القلوب التي نسيت ربها وتزلزلت عروش الكبر وكان من بين المصريين من لم يطفئ في داخله جذوة الفطرة القديمة وهم سحرة فرعون نفسه الذين وقفوا في ساحة التحدي وكانوا أهل علم ومعرفة فلما رأوا معجزة الحق عرفوا أنه ليس من سحر البشر فخروا ساجدين لله وقالوا آمنا برب موسى وهارون كانت لحظة نور خالدة فيها عاد العقل إلى مكانه والقلب إلى فطرته فانتصر الإيمان على الخوف. 

وكان هناك رجل من آل فرعون يكتم إيمانه فلما رأى القوم يريدون قتل موسى قال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم هذا الرجل المصري القديم من سلالة تعرف الإيمان وقف وحده في وجه الطغيان لا طمعا ولا رهبة بل وفاء لذلك النبض المصري القديم الذي يؤمن بالعدل والرحمة وحق الانسان في أن يقول لا للظلم فصار هذا الرجل مؤمن آل فرعون رمزا للموقف الأخلاقي في أحلك لحظات التاريخ. 

وفي قصر فرعون نفسه عاشت بين جدرانه امرأة مصرية من عامة الشعب كانت تمشط شعر بنات فرعون فلما سقط المشط من يدها قالت باسم الله فقالت ابنة فرعون وهل لك إله غير أبي قالت نعم إلهي والهك واله أبيك الله الواحد الأحد فوشت بها إلى فرعون فأمر بأن تلقى هي وأبناؤها في النار لكنها صبرت وماتت على كلمة التوحيد وارتفعت روحها إلى الخلود كشمعة من فطرة مصر القديمة تضيء ظلام القصور. 

هكذا عادت مصر في عهد موسى إلى جذورها الأولى حين كان القلب يعرف الله قبل المعابد وحين كان صوت الفطرة أقوى من صوت السوط والعرش ومن ادريس إلى يوسف إلى موسى ظلت مصر أرضا لا تطفئ جذوة الايمان آمنت بالفطرة الأولى قبل الرسالات وأحيت العدل قبل الشرائع وعرفت أن الانسان يختلف في اللسان والصورة لكنه يلتقي في الحقيقة الكبرى الله ولهذا لم تكن مصر أرض حرب بين العقائد بل أرض لقاء بين السماء والأرض حيث تظل الفطرة المصرية تهمس في القلب بسلام لكل من يسعى إلى الحق والخير

#نقاش_دوت_نت 

أون القديمة ، المصري القديم ، ميزان ماعت،تحوت ، ريشة العدالة ،الفلسفة الدينية الأولى في التاريخ، إدريس، اخناتون