من نحن اتصل بنا سياسة الخصوصية
×

نعمان عاشور رائد الواقعية الاشتراكية في المسرح المصري

القاهرة: خالد بيومي
نعمان عاشور رائد الواقعية الاشتراكية في المسرح المصري

 


ولد نعمان عاشور في نهاية الحرب العالمية الأولي في 27 يناير 1918 ،وهو نفس الشهر الذي ولد فيه الزعيم " جمال عبد الناصر" لأسرة تنتمي إلي أعيان الريف  في مدينة ميت غمر التابعة لمحافظة الدقهلية " شمال شرق القاهرة " ،وهي شريحة اجتماعية يعود الفضل في تأسيسها إلي الوالي محمد سعيد،ثم إلي الخديوي إسماعيل اللذين وزعا مئات الألاف من الأفدنة علي القادة الطبيعيين للريف المصري،وذوي الأصول المصرية في الغالب،لكي تتشكل منهم طبقة تخدم الأسرة العلوية،التي تتوارث عرش مصر ،وتثبت سلطانها،وتشكل جماعة ضغط توازي السلالات التركية والشركسية المشكوك في ولائها،وخاصة بعد الصدام الذي حدث بين " محمد علي الكبير" في أواخر حياته،وبين السطان العثماني الذي تحالف مع الأوروبيين ضده ،ليعيده إلي حدود مصر ،ويصفي الإمبراطورية التي كان قد كونها ،ويقلص من الحقوق الاستقلالية التي حصل عليها.



وكان " سعد الدين أفندي عاشور" ينتمي إلي هذه الطبقة ورث عن الجد أراضي زراعية وعقارات أوقف بعضها علي الطريقة الشاذلية ،ومنزلا كبيرا متعدد الأدوار،خصص واحدا منها لمكتبة ضخمة ، وكان حكاء عظيما ألهب خيال" نعمان"الطفل بمروياته التي لا تنتهي عن نجوم المسرح الذي أحبه وعشقه،ولم يكن يمر أسبوع دون أن يسافر إلي " المحروسة" أي " القاهرة" لكي يشاهد عرضا مسرحيا جديداً. وكان رفيقه الدائم في تلك الرحلات ابنه الأكبر " نعمان"  كما تابع نعمان أفلام دار السينما الوحيدة في ميت غمر التابعة للمنصورة،وعروض السيرك والأراجوز. كما قرأ في مكتبة والده أمهات كتب التراث مثل"  الأغاني للأصفهاني،والأمالي لأبي علي القالي،وسيرة ابن هشام ,تفسير الطبري،وصحيح البخاري،والعقد الفريد لابن عبد ربه،وتاريخ الجبرتي، وطبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي.




كان نعمان في الثالثة عشرة من عمره ،حين جاءت سنوات الكساد العالمي الكبير في النصف الأول من ثلاثينيات القرن العشرين لتنهب الجزء الأكبر من ثروة والده ،وكانت المكتبة أول ما بيع من ممتلكاته،فلم يبق منها سوي كتاب" تاريخ الجبرتي" التي شاءت الأقدار أن يستعيره أحد أخواله فنجا من التفليسة، ليسترده " نعمان" فيما بعد ويدمن القراءة فيه،والكتابة عنه ومنه.

وتتابعت أوامر الحجز، وبيعت السيارة، وتوقفت رحلات الأسرة إلي المحروسة لمشاهدة العروض المسرحية، ولم يبق من مظاهر العز القدين سوي الذكريات. وسقطت أسرة نعمان من موقعها الاجتماعي بين أعيان الريف إلي قاع الطبقة الوسطي .

كان نعمان قد تربي في بيئة متفتحة تخلو من التزمت وتشمئز من التعالي علي الأخرين،وكان بحكم حساسيته العصبية الفائقة شديد التعاطف مع الفقراء والضعفاء.وجاءت الكارثة الاقتصادية التي هوت بأسرته إلى واقع اجتماعي قريب منهم ،لترهف من هذه الحساسية ،وجاء شغفه بالقراءة والأدب،ليشكل وجدانه علي نحو خاص ، يربط بين هذا الأدب ،وبين القيام برسالة إنسانية تنصف المضطهدين والمهمشين.

التحق نعمان بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الأداب ب" جامعة فؤاد الأول"فاتيح له أن يدرس علي اثنين كان لهما أثر كبير في حياته: الأول فهو المستر " هاورث" الذي كان يدرس له الدراما والشعر ، كان يعتنق الأفكار الاشتراكية ،ولأنه كان من أصل أيرلندي،فقد كان يتعاطف مع رفض المصريين للاحتلال البريطاني.




أما الثاني- الذي تجاوزت صلته به قاعة المحاضرات إلي ما يشبه الصداقة الشخصية- فكان الدكتور" محمد مندور"الذي كان يدرس له الترجمة،وعن طريقها تعرف نعمان عاشور علي النظرية الاجتماعية في تفسير النصوص الأدبية،ليكتشف عالما كان يشعر به،ولكنه لا يعرف ما هو بالضبط.

وكانت الجامعة المصرية في بداية الأربعينيات تزدحم بأحلام ذلك الجيل الذي بدأ في منتصف الثلاثينيات رحلة تمرده علي جيل ثورة 1919 ،فتعرف نعمان عاشور علي كثيرين ينتمون إلي مختلف التيارات والمدارس الأدبية الجديدة ، سوف يشتركون معه فيما بعد في النشاط السياسي الذي خلخل قوائم النظام القديم ومهد الأرض لانتصار ثورة 23 يوليو 1952 ، ثم في صنع الازدهار الأدبي والفني والثقافي الذي تحقق خلال الخمسينيات والستينيات.

خارج الجامعة  كانت المنتديات الأدبية والثقافية تزدحم بالأحلام نفسها ،وبالتيارات ذاتها، تقودها عناصر من مثقفي الجيل السابق لم تخمد في نفوسهم جذوة الأمل في صنع وطن مختلف. وأخذ نعما ن يتنقل كالنحلة بين أفنانها يستمع ويناقش ويتعلم ويعود لمنزله ليقرأ، كانت هناك قهوة" عبدالله" بميدان الجيزة،فيها تنعق بمن حضر ندوة حرة- تتواصل ليل نهار،وعمدتها هو الناقد المجدد " أنور المعداوي" ،وندوة الشاعر والناقد " مصطفي عبد الله السحرتي" علي أحد الكازينوهات التي تتوزع علي شاطيء النهر،وقعدة " عبد القادر القط " في قهوة " مرعي" والصالون الذي كان يعقده" محمد مندور" في بيته لتلاميذه،وندوة" مفيد الشوباشي" أحد أهم المبشرين الأوائل بالاشتراكية في ذلك العقد.وندوة مجلة" فصول" – لسان حال جماعة النهضة القومية-التي كان يعقها صاحبها ورئيس تحريرها " محمد زكي عبد القادر" في مقرها،فضلا عن ندوات سلامة موسي في جمعية" الشبان المسلمين" ،وما كان يشعه "لويس عوض" داخل الجامعة وخارجها



في عام 1943 وبعد تخرجه من الجامعة بعام بدأت صلة نعمان ب"لجنة  نشر الثقافة الحديثة" التي كانت ثمرة تعاون بين حلقتين ماركسيتين ،كانت إحداهما هي الحلقة التي عرفت في نهاية حياتها باسم " حزب العمال والفلاحين"،وكان الهدف من تأسيسها كما قالت بياناتها:" نشر ثقافة علمية حرة،وضم صفوف المفكرين التقدميين وإلقاء محاضرات،وأبحاث حرة، ونشر كتب مؤلفة ومترجمة". ولم يكد ينضم نعمان إلي اللجنة حتي أصبح سكرتيرها العام،وواحد من أبرز أعضائها.

وصدرت عن الحلقة مجلة الفجر الجديد في 16 مايو 1946 ،واستمرت حتي أواخر العام نصف شهرية وكان يغلب عليها الطابع الثقافي، ثم أصبحت تجمع بين الثقافة والسياسة وخاصة بعد أن تحولت إلي مجلة أسبوعية مع بداية عام 1946,  وعلي صفحاتها لمعت أسماء أدباء وشعراء وكتاب ومفكرين شاركوا بعد ذلك في حفر مجري جديد للأدب والفن والثقافة والفكر كان من بينهم" أحمد رشدي صالح"- الذي كان يرأس تحريرها- و" علي الراعي" و" سعد مكاوي" و" عبد القادر القط" ، و" محمد خليل قاسم"، و" كمال عبد الحليم"،و" لطيفة الزيات" و" أنور المشري"و" محمود الشنيطي" ، فضلا عن أخرين جمعوا بين العمل السياسي والكتابة الفكرية وكان علي رأسهم " أبو سيف يوسف" و" صادق سعدة" وعدد كبير مما كان يعرف أنذاك بكتاب الطليعة من شعراء وكتاب الوطن العربي. وقد ظلت تواصل الصدور حتي يوليو من عام 1946 إلي أن توقفت بعد العدد" 41 " ضمن ما وصفته مذكرة تحريات للقلم المخصوص- وهو الجهاز الأمني الذي كان متخصصا في مكافحة الشيوعية- أنذاك ب" مراكز الدعاية الشيوعية بالقطر المصري" أثناء الحملة الشهيرة التي شنها إسماعيل صدقي ضد العناصر اليسارية في يوليو 1946 

كان نعمان عاشور أحد أفراد تلك الكوكبة ،وشاءت الظروف أن يكون ضمن أول حملة يشنها " القلم المخصوص"ضد مجلة الفجر الجديد بسبب مقال من بين ثلاثة مقالات كانت كل ما كتبه علي صفحاتها، مما وصف أنذاك ب" أفكار هدامة"،وكان المقال بعنوان" ستالين والثورة الاشتراكية"، ومع أن المقال كان مقال" نعمان" الأول، والوحيد في السياسة، فقد سجن بسببه لمدة تزيد علي شهر،وقدم للمحاكمة التي برأته بعد ثماني سنوات، ظلت خلالها القضية تنظر أمام المحاكم، وفتش بيته خلالها أكثر من ثماني مرات، مع أنه كان قد كف عن أي نشاط سياسي.

وكانت تلك هي البداية التي أقنعت نعمان أنه غير مؤهل لتحمل تبعات وأعباء النضال السياسي، فقرر أن يعود إلي قواعده سالما،وأن يتفرغ للأب وحده،وفيما بعد حسم اختياره وقرر أن يتجه إلي الكتابة المسرحية ليكون رائد المسرح الواقعي.

ولكن هذا لا يعني أن نعمان  قد كف عن الاهتمام بالسياسة أو تخلي عن أفكاره الاشتراكية  التي ظلت في خلفية أعماله، مثل " وابور الطحين " ، و" عائلة الدوغري " فقد انتقل بشكل نهائي من مسرح السياسة إلي مسرح الفن ،من المسرح الذي شعر أنه لن يفيد فيه،إلي المسرح الذي شعر أنه يحتاج إليه،ويمكن أن يكون مؤثرا فيه.

ويري الكتور لويس عوض أن نعمان عاشور أهم حلقة في سلسلة الكتاب الذي وضعوا أسس المسرح المصري ،والذي كان من قبله يعتمد إما علي الترجمة أو الاقتباس من أصول أجنبية ،فجاء" نعمان عاشور" ليبتكر موضوعه الخاص ويعالجه بلغته الخاصة دون الحاجة للاستعانة بنموذج أجنبي ،وليؤسس- فضلا عن تمصير المسرح نفسه- مدرسة الواقعية الاشتراكية في المسرح المصري والعربي.

كان " نعمان" يتفاعل مع قضايا الواقع ويرصد تحولاته بلغة مسرحية يتضافر فيها البعد الإنساني مع إحكام الصياغة. قدم نعمان عاشور" المغناطيس" ،و" الناس اللي تحت والناس اللي فوق" التي استقبلها جمهور المسرح بحفاوة بالغة لانها تسلط الضوء علي مشكلات الطبقة المهمشة والمطحونة. ما تناول الطبقة الوسطي في " عيلة الدوغري" والطبقة الأرستقراطية في" الناس اللي فوق"،وقد صرح في أحد حواراته بأن المسرح حوار حي ينبغي أن تقدم فوق خشبته كل القضايا الواقعية  رغم أنه كان يكتب لغة شاعرية.

كان " نعمان عاشور" ابنا للزمان والمكان ،وثمرة للبيئة التي نشأ فيها،وصنيعة ظروف اجتماعية كان لابد وأن تشكله علي النحو الذي كانه،وحين أصبح عليه أن يختار،قادته حساسيته الخاصة نحو الاختيار الأفضل والأبقي ،فقرر بجسارة أن يقف مع المستضعفين من الرجال والنساء والولدان،وأن يسعي لبناء مستقبل أفضل للوطن والشعب،وللمشاركة في تأسيس فن أرقي وثقافة أكثر استنارة،حتي لا يندم أحد علي الحياة،وهو الشعار الذي اتخذته لنفسها مجلة" الفجر الجديد" التي بدأ مسيرته الأدبية والسياسية منها. وقد رحل عن عالمنا في 5 إبريل سنة 1987 .


 #نقاش_دوت_نت 


 


 

المحروسة ، أعيان الريف ،تاريخ الجبرتي ، الأفكار الاشتراكية،