كيف نكتب تاريخ الحقيقة؟
العداوة بين الفلسفة والدين
لم تكن العداوة بين الفلسفة والفقه صداماً همجيّاً بين العقل والنقل، بل كان نزاعاً ذكيّاً ومركّباً بين تأويلين متنافسين على مجال التعالي، أي على نوع العلاقة مع الحقيقة. ولأنّ كل نوع من العلاقة مع مؤسسة الحقيقة يفترض تصوّراً سابقاً وعميقاً عن السلطة، فإنّ نزاع التأويلات حول مجال التعالي هو دوماً وسلفاً مشكل سياسي، حتى وإن كان غير مطروح أو معرَّف على أنّه كذلك. وإنّ المشكل السياسي هو في أعماقه ومنذ أوّل أمره نزاع حول الحقيقة، أي حول الطريقة المناسبة للسيطرة على مجال التعالي الذي يشتقّ منه البشر كلّ أنواع الحرية التي يصبون إليها. ومن هنا يتأتى أنّ كلّ تفكير حرّ، أي كلّ تدبّر أو اعتبار للتكريم الإلهي للبشر، هو يوحي سلفاً بأنّه ينطوي على خطر ضمني أو صريح على مؤسسة الحقيقة السائدة. كلّ تفكير حرّ هو منافسة على تمثيل الحقيقة في ثقافة ما. وهي منافسة تتمّ دوماً مع «الشريعة» السائدة، أي مع الشكل القانوني السائد لحراسة مؤسسة الحقيقة. وهو أمر لا يتحقّق أبداً إلاّ بقدر ما تنجح تلك الشريعة هي بدورها في تطوير جهاز العقل داخلها. ولذلك فإنّ العقل ليس حرّاً بالضرورة. لكنّه جهاز مؤسساتي دوماً.
وهكذا فإنّ محنة ابن رشد ليست محنة العقل بل محنة الحرية. لم يكن استعمال العقل لدى ابن رشد يمتلك أيّ تفوّق إيبستيمولوجي على جهاز العقلنة الذي تأسّس عليه الفقه. وما تمّت محاكمته أو نفيه إلى أليُسانة، مدينة اليهود، ليس العقل، بل الجرأة على النظر في الموجودات على نحو يخرق محظورات الفقهاء عن الاقتراب من مجال التعالي من دون وصاية أو حراسة رمزية من مؤسسة الحقيقة السائدة. لم يكن ابن رشد خطراً على منطق الملة لأنّه استعمل العقل وليس النقل (فالفقهاء أيضاً عقلانيون بشكل مفزع) بل لأنّه تجرّأ على ممارسة نوع غير ديني من التدبّر والاعتبار لمجال التعالي، بحثاً عن الحقيقة ما وراء التكاليف الفقهية.
محاكمة الحرية
ومع ذلك لم يكن مشكل ابن رشد هو دحض الدين، بل إنقاذ حقيقة النص من المأزق الميتافيزيقي الذي فرضه الفقهاء: إفراغ مجال التعالي من الاعتبار أي من حرية البحث عن الحقيقة بأنفسنا. والفلسفة هي حراسة إمكانية الحقيقة المتاحة في ثقافة ما، لكنّ محاكمة ابن رشد، والتي تمّت في المسجد الجامع الأعظم في قرطبة، وتحت نظر الخليفة وخطبة القاضي، قد فضحت كلّ وعود الملة عن الحقيقة: أنّ «دين الفقهاء» لا يقبل مخالطة مجال التعالي إلاّ بعد إفراغه من الاعتبار، أي من حرية الناس في معرفة أنفسهم. لم تكن محاكمة للفلسفة اليونانية بل محاكمة لحق المؤمنين في التفكّر الحرّ من أجل اقتراح علاقة خاصة بمجال التعالي الذي نبّه عليه الوحي. و«نكبة ابن رشد» (كما سمّاها بنفسه) قد بيّنت أنّه لا معنى لمحاكمة الإلحاد لأنّه سيكون عندئذ تديّناً بلا موضوع، بل ما تتمّ محاكمته في كل مرة باسم الملّة هو حرية الاعتبار لأنّها تضع مؤسسة الحقيقة السائدة موضع امتحان. كان طموح ابن رشد هو نفسه طموح الفلاسفة في عصور نهاية الملة، طموح سبينوزا اليهودي أو كانط المسيحي لاحقاً: توسيع مساحة الاعتبار حتى تشمل جميع الأمم ويصبح النظر في الموجودات بعامة، نظراً بالنيابة عن جميع الإنسانية.
إنّ المحاكمة نزاع رمزي حول أحقّية التمثيل: من يمثّل أو من يحقّ له أن يمثّل سلطة الحقيقة في أفق الملة؟ وكلّ مفكّر «حقيقي» -أي بصدد تطوير نظرية عن الحقيقة- هو منافس استراتيجي لنظام الحقيقة السائد في أذهان شعب أو مجتمع ما، ولكنّ ذلك يعني أنّ محاكمة المفكّرين ليست خطأ أخلاقياً طالما هي تجربة حاسمة في علاقة كل ثقافة بنفسها، أي بقدرتها على حماية ادّعاء الحقيقة الذي يبرّر وجودها التاريخي من الداخل. ولا معنى لأن نرفض محاكمة مفكّر ما طالما أنّ هذه المحاكمة هي ليس فقط الدليل الوحيد على أصالة تفكيره، بل هي الفرصة التاريخية الحاسمة التي تعلّم شعباً أو مجتمعاً «حدود» سياسة الحقيقة داخله. إنّ ابن رشد ليس شخصاً بل موقف كان لابدّ أن يظهر في نطاق الملة كما ضبطها بعض الفقهاء. ومن أراد أن يكتب تاريخ الحقيقة في مجتمع ما عليه أن يضع أفقاً لفهمه تاريخ محاكمات الفكر الحر التي حدثت في نطاقه. فكلّ محنة يتعرض لها مفكّر أو عالم أو كاتب أو شاعر أو حتى نبيّ، هي لا تعدو أن تكون طوراً من أطوار فكرة الحقيقة وعلاقة الناس بالحقيقة في ثقافة ما. لا تتطوّر فكرة الحقيقة إلاّ بقدر ما تتعرّض إلى محاولات التحرّر من سلطتها.
عداوة الفلسفة والفقه
لم تكن العداوة بين الفلسفة والفقه صداماً همجيّاً بين العقل والنقل، بل كان نزاعاً ذكيّاً ومركّباً بين تأويلين متنافسين على مجال التعالي، أي على نوع العلاقة مع الحقيقة. ولأنّ كل نوع من العلاقة مع مؤسسة الحقيقة يفترض تصوّراً سابقاً وعميقاً عن السلطة، فإنّ نزاع التأويلات حول مجال التعالي هو دوماً وسلفاً مشكل سياسي، حتى وإن كان غير مطروح أو معرَّف على أنّه كذلك. وإنّ المشكل السياسي هو في أعماقه ومنذ أوّل أمره نزاع حول الحقيقة، أي حول الطريقة المناسبة للسيطرة على مجال التعالي الذي يشتقّ منه البشر كلّ أنواع الحرية التي يصبون إليها. ومن هنا يتأتى أنّ كلّ تفكير حرّ، أي كلّ تدبّر أو اعتبار للتكريم الإلهي للبشر، هو يوحي سلفاً بأنّه ينطوي على خطر ضمني أو صريح على مؤسسة الحقيقة السائدة. كلّ تفكير حرّ هو منافسة على تمثيل الحقيقة في ثقافة ما. وهي منافسة تتمّ دوماً مع «الشريعة» السائدة، أي مع الشكل القانوني السائد لحراسة مؤسسة الحقيقة. وهو أمر لا يتحقّق أبداً إلاّ بقدر ما تنجح تلك الشريعة هي بدورها في تطوير جهاز العقل داخلها. ولذلك فإنّ العقل ليس حرّاً بالضرورة. لكنّه جهاز مؤسساتي دوماً.
وهكذا فإنّ محنة ابن رشد ليست محنة العقل بل محنة الحرية. لم يكن استعمال العقل لدى ابن رشد يمتلك أيّ تفوّق إيبستيمولوجي على جهاز العقلنة الذي تأسّس عليه الفقه. وما تمّت محاكمته أو نفيه إلى أليُسانة، مدينة اليهود، ليس العقل، بل الجرأة على النظر في الموجودات على نحو يخرق محظورات الفقهاء عن الاقتراب من مجال التعالي من دون وصاية أو حراسة رمزية من مؤسسة الحقيقة السائدة. لم يكن ابن رشد خطراً على منطق الملة لأنّه استعمل العقل وليس النقل (فالفقهاء أيضاً عقلانيون بشكل مفزع) بل لأنّه تجرّأ على ممارسة نوع غير ديني من التدبّر والاعتبار لمجال التعالي، بحثاً عن الحقيقة ما وراء التكاليف الفقهية.
محاكمة الحرية
ومع ذلك لم يكن مشكل ابن رشد هو دحض الدين، بل إنقاذ حقيقة النص من المأزق الميتافيزيقي الذي فرضه الفقهاء: إفراغ مجال التعالي من الاعتبار أي من حرية البحث عن الحقيقة بأنفسنا. والفلسفة هي حراسة إمكانية الحقيقة المتاحة في ثقافة ما، لكنّ محاكمة ابن رشد، والتي تمّت في المسجد الجامع الأعظم في قرطبة، وتحت نظر الخليفة وخطبة القاضي، قد فضحت كلّ وعود الملة عن الحقيقة: أنّ «دين الفقهاء» لا يقبل مخالطة مجال التعالي إلاّ بعد إفراغه من الاعتبار، أي من حرية الناس في معرفة أنفسهم. لم تكن محاكمة للفلسفة اليونانية بل محاكمة لحق المؤمنين في التفكّر الحرّ من أجل اقتراح علاقة خاصة بمجال التعالي الذي نبّه عليه الوحي. و«نكبة ابن رشد» (كما سمّاها بنفسه) قد بيّنت أنّه لا معنى لمحاكمة الإلحاد لأنّه سيكون عندئذ تديّناً بلا موضوع، بل ما تتمّ محاكمته في كل مرة باسم الملّة هو حرية الاعتبار لأنّها تضع مؤسسة الحقيقة السائدة موضع امتحان. كان طموح ابن رشد هو نفسه طموح الفلاسفة في عصور نهاية الملة، طموح سبينوزا اليهودي أو كانط المسيحي لاحقاً: توسيع مساحة الاعتبار حتى تشمل جميع الأمم ويصبح النظر في الموجودات بعامة، نظراً بالنيابة عن جميع الإنسانية.
إنّ المحاكمة نزاع رمزي حول أحقّية التمثيل: من يمثّل أو من يحقّ له أن يمثّل سلطة الحقيقة في أفق الملة؟ وكلّ مفكّر «حقيقي» -أي بصدد تطوير نظرية عن الحقيقة- هو منافس استراتيجي لنظام الحقيقة السائد في أذهان شعب أو مجتمع ما، ولكنّ ذلك يعني أنّ محاكمة المفكّرين ليست خطأ أخلاقياً طالما هي تجربة حاسمة في علاقة كل ثقافة بنفسها، أي بقدرتها على حماية ادّعاء الحقيقة الذي يبرّر وجودها التاريخي من الداخل. ولا معنى لأن نرفض محاكمة مفكّر ما طالما أنّ هذه المحاكمة هي ليس فقط الدليل الوحيد على أصالة تفكيره، بل هي الفرصة التاريخية الحاسمة التي تعلّم شعباً أو مجتمعاً «حدود» سياسة الحقيقة داخله. إنّ ابن رشد ليس شخصاً بل موقف كان لابدّ أن يظهر في نطاق الملة كما ضبطها بعض الفقهاء. ومن أراد أن يكتب تاريخ الحقيقة في مجتمع ما عليه أن يضع أفقاً لفهمه تاريخ محاكمات الفكر الحر التي حدثت في نطاقه. فكلّ محنة يتعرض لها مفكّر أو عالم أو كاتب أو شاعر أو حتى نبيّ، هي لا تعدو أن تكون طوراً من أطوار فكرة الحقيقة وعلاقة الناس بالحقيقة في ثقافة ما. لا تتطوّر فكرة الحقيقة إلاّ بقدر ما تتعرّض إلى محاولات التحرّر من سلطتها.
نز اع التأويلات، التعالي، محنة ابن رشد، التكريم الإلهي، محاكمة الحرية
