من نحن اتصل بنا سياسة الخصوصية
×

المؤرخ الأديب: أحمد زكريا الشلق

د.مصطفى رياض
المؤرخ الأديب: أحمد زكريا الشلق


في حديث الثقافة، من إعداد وتقديم محمد راشد الندابي


نشأته وتكوينه


لم يكن الدكتور أحمد زكريا الشلق، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس، مجرد باحث أكاديمي يجمع الروايات ويدقق النصوص، وإنما هو قامة علمية باسقة، استطاعت أن تمزج في مسيرتها بين صرامة المنهج التاريخي ورهافة الحس الأدبي. وإذا رجعنا إلى جذوره الأولى، ألفيناه نبتة طيبة من نبت الريف المصري، فقد تفتح وعيه في قرية "كفر الحما" بمركز طنطا، وفي كُتّابها تلقى تعليمه الأولي وحفظ الذكر الحكيم، شأنه في ذلك شأن جيل الرواد من علمائنا.

ولم يلبث الفتى أن انتقل إلى المدينة، يحمل بين جوانحه طموحا يدفعه صوب الأدب والنقد، وتتوق نفسه إلى دراسة الفلسفة، غير أن المقادير ساقت خطاه إلى قسم التاريخ، لتتفتق موهبته فيه، ويعين معيدا سنة 1972 م، فكان ذلك إيذانا بتحول كبير في مساره، إذ استبدل بقلم الأديب مبضع المؤرخ.

ومن غير شك، كان لأستاذه الدكتور أحمد عزت عبد الكريم أثر بعيد المدى في تكوينه العلمي؛ فقد لازمه الشلق في داره ملازمة الظل لصاحبه، يقرأ عليه الوثائق والمصادر لما أصاب بصر الأستاذ من وهن، فكانت تلك المجالس بمثابة "حلقات درس" خاصة، صقلت لغته، وهذبت أدواته البحثية، ووضعت قدمه على طريق التحقيق والتدقيق.


منهجه ورؤيته التاريخية


ويصدر الدكتور الشلق في كتاباته عن رؤية منهجية سديدة، قوامها أن التاريخ لا يُنسج من خيال المؤرخ، ولا يُستمد من بنات أفكاره، وإنما هو استنطاق للوثائق واستقراء للنصوص. ومن هنا نراه يلح على الباحثين الناشئين بوجوب العودة إلى المنابع الأولى والمصادر الأصيلة، من وثائق ومذكرات وتقارير، نائياً بهم عن النقل من المراجع الثانوية، بغية تقديم إضافات علمية رصينة.


وهو لا ينظر إلى التاريخ نظرة السرد للحوادث الغابرة، بل يرى فيه مفتاحاً لفهم الواقع الماثل، وأداة لاستشراف المستقبل، لا عن طريق التنجيم والكهانة، بل عن طريق القراءة الواعية لسنن التاريخ ومعطياته.


معاركه الفكرية وآثاره


ولم يقف الشلق عند حدود السرد التاريخي، بل خاض غمار المعارك الفكرية بجرأة العالم وثقة المحقق؛ ففي كتابه "حداثة الإمبريالية" تصدى لتفنيد تلك "الأكذوبة" التي شاعت عن حداثة الحملة الفرنسية، مبيناً بالأدلة القاطعة أن ما أحدثه الفرنسيون من مظاهر التحديث لم يكن لـ"سواد عيون" المصريين، وإنما لخدمة جيشهم ومشروعهم الاستعماري، فلا مدرسة بنوا لتعليم الشعب، ولا مصنعا أقاموا لرفاهيته، وإنما هي آلة الاستعمار تطور المستعمرة لاستنزافها.

وعلى هذا النحو يمضي في كتابه "من النهضة إلى الاستنارة" مناقشاً قضية العلاقة بين الشرق والغرب، مصنفاً المواقف منها إلى تيارات ثلاثة: تيار منبهر يدعو للذوبان في الآخر، وتيار منغلق يرفضه جملة، وتيار ثالث "توفيقي" ينتصر له المؤلف، وهو الذي يأخذ من الغرب أسباب القوة والعلم، ويستمسك في آن واحد بعرى الهوية والقيم.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن إسهاماته لم تنحصر في هذا الجدل الفكري، بل امتدت لتسد ثغرات واسعة في تاريخنا السياسي والأدبي، فقد أرَّخ لأحزاب سياسية لم تنل حظها من الدرس كحزب الأمة وحزب الأحرار الدستوريين، وأنصف شخصيات تنويرية، وكشف عن الجانب السياسي في حياة عميد الأدب العربي طه حسين. ولم يقف قلمه عند حدود مصر، بل جاوزها موثقاً لتاريخ قطر السياسي إبان عمله بجامعتها، فكان كتابه مرجعاً فريداً في بابه.

وختاماً، فإن الدكتور الشلق - برغم تمسكه بتقاليد المدرسة التاريخية الرصينة - لم يغفل ما أحدثته الثورة التكنولوجية من نفع عميم، إذ مكنت المؤرخ من ارتياد الآفاق والوصول إلى الأرشيفات العالمية وهو قابع في داره، مؤكداً بذلك أن المؤرخ الحق هو ابن عصره، الذي يحسن استخدام أدواته ليعيد قراءة ماضيه.

والشكر موصول للأستاذ محمد راشد الندابي الذي اتسم أداؤه بالمهنية الرفيعة والإعداد المسبق الذي تجاوز مجرد طرح الأسئلة التقليدية إلى الاشتباك الواعي مع المشروع الفكري للضيف؛ فقد أظهر إلماما دقيقا بمؤلفات الدكتور الشلق، مستحضراً عناوين كتبه ومناقشا أطروحاته الجدلية حول الحداثة والاستعمار وتفاصيل تجربته المهنية في قطر، كما التفت بذكاء إلى جوانب دقيقة كنشاطه في كتابة المقدمات والربط بين نزعته الأدبية ومنهجه التاريخي؛ الأمر الذي خلق حواراً فكرياً متميزًا شجع الضيف على الاسترسال في عرض تجربته الثرية.

كفر الحما ، الشلق، قلم الأديب، مبضع المؤرخ، التاريخ، حلقات درس