كيف تصبح الترجمة فعلآ للمقاومة ؟
مجلة "لقاءات في الترجمة": نحو آفاق بينية تُعيد تشكيل إنتاج المعرفة ونشرها
https://publications-prairial.fr/encounters-in-translation/index.php?id=1162
تُفصحُ القراءة الفاحصة لما جاء في العدد الرابع (2025) من دورية Encounters in Translation عن تحوّل جوهري في النظر إلى دراسات الترجمة؛ إذ لم تعد تلك الدراسات حبيسة النقل اللغوي المجرّد، بل انطلقت لتعانق فضاءات الدراسات البينية (Interdisciplinary Studies)، مُشتبكةً مع التاريخ، وعلم الاجتماع، والسياسة، والفلسفة، والأدب المقارن. إن هذا التوجه يرسخ للترجمة بوصفها فعلاً معرفيا يُنتج المعرفة ولا يكتفي بنقلها، ويُعيد صياغة الهويات والسرديات التاريخية. وفيما يلي استجلاءٌ لهذا التوجه من خلال الأبحاث والمقالات التي تضمنها الملف:
الترجمة بوصفها فعلاً للمقاومة والذاكرة (السياق الفلسطيني)
يفتتح الملف بنصّ بديع وشجى يُخرج الترجمة من حيزها التقني إلى فضاء الوجود والشهادة، وذلك في مقال بعنوان "الحياة المزدوجة للمترجم الفلسطيني: جسرٌ بين الجرح والكلمة". هنا، تتجاوز الترجمة وظيفتها التقليدية لتغدو "فعلاً أخلاقيا" و"طوراً من أطوار الشهادة"، لا سيما في سياق غزة، حيث تصبح الكتابة والترجمة تحت الحصار محاولة لإنقاذ الذاكرة من المحو.
يستحضر النص الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين ومقالته "مهمة المترجم"، ليؤكد أن الترجمة تهب النص حياة ثانية. غير أن المترجم الفلسطيني يواجه مفارقة وجودية: كيف تُمنح "حياة ثانية" لنص دُفن أصله تحت الأنقاض؟. ويشير النص بوضوح إلى الشهيد رفعت العرعير، الذي رأى في الترجمة والكتابة فعلاً لرفض الصمت والشروط القسرية المفروضة على السردية الفلسطينية. إن هذا التناول يربط دراسات الترجمة بحقل دراسات ما بعد الاستعمار (Postcolonial Studies) والأدب المقاوم، حيث يصبح نقل الألم الفلسطيني إلى الإنجليزية معركة ضد الهياكل اللغوية التي تسعى لتجريد الضحية من فاعليتها.
سوسيولوجيا الترجمة وتغير موازين القوى (العلوم الإنسانية الصينية)
ينتقل الملف بنا إلى حقل "سوسيولوجيا الترجمة" (Sociology of Translation) وتداخلها مع الجيوسياسية، من خلال دراسة تتناول ديناميات ترجمة العلوم الإنسانية والاجتماعية الصينية إلى الإنجليزية بين عامي 1989 و2019. تكشف الدراسة كيف تحولت الترجمة من كونها استجابة لاهتمامات الغرب (مثل أدب المنشقين ونظريات التحديث) في التسعينيات، إلى مشروع ممول من الدولة الصينية في العقد الثاني من الألفية الثالثة، فيما يُعرف بـ "استراتيجية الخروج" (Going-out strategy).
هنا تظهر الترجمة بوصفها أداة للقوة الناعمة، حيث تسعى الصين لـ "ترجمة الحداثة الصينية" للعالم بدلاً من استيراد الحداثة المترجمة. وتبرز الدراسة دور المؤسسات والتمويل في توجيه تدفق المعرفة، مما يؤكد أن الترجمة ليست فعلاً محايدا بل هي متجذرة في هياكل القوة الجيوسياسية. هذا البحث يربط دراسات الترجمة بالاقتصاد السياسي وتاريخ الأفكار العالمي (Global Intellectual History).
التأريخ بوصفه فعلاً ترجميا(إعادة قراءة تاريخ ألمانيا الشرقية)
في التفاتة ذكية للعلاقة بين التاريخ والترجمة، تطرح ورقة بحثية حول تاريخ جمهورية ألمانيا الديمقراطية (GDR) فكرة أن "كتابة التاريخ هي شكل من أشكال الترجمة". تستند الباحثة إلى أطروحات المؤرخ هايدن وايت الذي رأى أن الكتابة التاريخية ليست محايدة بل هي تشكيل للسرد.
تنتقد الورقة السرديات الغربية التي وصفت الشرق بالقمع الكلي، مستعينة بمفهوم "تاريخ الحياة اليومية" (Alltagsgeschichte) لإعادة "ترجمة" الماضي عبر أصوات المترجمين الذين عاشوا في تلك الحقبة. وتُظهر المقابلات الشفوية كيف مارس هؤلاء المترجمون نوعاً من الاستقلالية والمهنية رغم القيود الأيديولوجية. هنا، تتلاقح دراسات الترجمة مع مناهج البحث التاريخي والتاريخ الشفوي، لتكشف كيف يمكن للمترجم أن يكون شاهدا تاريخيا يُعيد التوازن للسرديات الكبرى.
السرديات متعددة اللغات وبناء المجتمع (تجربة أيرلندا)
وفي منحى يربط الترجمة بعلم اللغة الاجتماعي (Sociolinguistics) والفنون المجتمعية، يستعرض الملف تجربة بحثية قائمة على الممارسة في "غالواي" و"بلفاست" بأيرلندا، ركزت على "السرد القصصي متعدد اللغات".
توضح الدراسة كيف أن ورش العمل السردية سمحت للمشاركين (من المهاجرين واللاجئين) بـ "ترجمة ذواتهم" وإعادة تأطير هوياتهم الثقافية لجمهور جديد. لم تكن الترجمة هنا مجرد نقل للنصوص، بل عملية إبداعية وتفاعلية (Translationality) تخلق مساحات للتضامن وفهم الآخر. يستشهد البحث بمفهوم تيم إنجولد حول "العالم المسرود"، ليؤكد أن الترجمة أداة لبناء المجتمعات وتمكين الأفراد، متجاوزة البعد اللغوي الصرف إلى الأبعاد السيميائية والاجتماعية.
العودة إلى الفلسفة (نقاش حول فالتر بنيامين)
يختتم الملف بنقاش فلسفي عميق بمناسبة مرور أكثر من مئة عام على مقالة فالتر بنيامين الشهيرة "مهمة المترجم". يجمع النقاش بين الفلسفة وعلم الاجتماع والترجمة، حيث يتناول المشاركون، ومنهم الفيلسوف أنطونيو أغيليرا وعالمة الاجتماع إسبيرانزا بيلسا والمترجم فرويلا فرنانديز، أهمية الترجمة في فكر بنيامين الناضج.
يُبرز النقاش أن بنيامين لم ينظر للترجمة كأداة تواصلية فحسب، بل كتقنية تكشف عن "قرابة اللغات" وتعبر عن جوهر العمل الفني الذي يتوق للاستمرار. كما يتم الربط بين الترجمة وتقنيات النسخ الميكانيكي (كالتصوير الفوتوغرافي)، مما يفتح آفاقا لفهم الحداثة وما بعدها. يتم استحضار شخصيات مثل فريدرش هولدرلين وترجمته لإنتيجون، والفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيجا إي جاسيت، لتأكيد أن الترجمة هي المدخل الحقيقي للفلسفة ولتجديد اللغة.
خاتمة
تُجلي هذه النصوص مجتمعةً حقيقة أن مجلة Encounters in Translation لا تقف عند حدود النص المترجم، بل تغوص في السياقات التي تُنتج فيها المعرفة. إنها تؤكد أن المترجم –سواء كان فلسطينيا يقاوم المحو، أو باحثاً صينيا يسعى إلى العالمية، أو مؤرخا ألمانيا يعيد قراءة الماضي، أو راويا في أيرلندا يترجم ذاته– هو فاعل رئيسي في تشكيل وعي العالم وتاريخه. وكما قال فالتر بنيامين، فإن الترجمة هي التي تضمن "الحياة الثانية" للنصوص وللثقافات، وهي الجسر الذي تعبر عليه الإنسانية من العزلة إلى اللقاء.
#نقاش_دوت_نت
لقاءات في الترجمة، سوسيولوجيا الترجمة، تغير موازين القوى، التأريخ والترجمة، فالتر بنيامين
