أماني التي تعرفونها… وأماني التي أعرفها
في رثاء صديقة عمري "د. أماني فوزي"
أماني فوزي حبشي… عرفتموها كواحدة من أبرز مترجمات الأدب الإيطالي إلى العربية، صاحبة مسيرة أكاديمية لامعة، وقائمة طويلة من الإنجازات التي رفدت الثقافة العربية لعقود.
أما بالنسبة لي… فكانت أماني حياة.
جزءًا أصيلًا من تكويني، وامتدادًا مضيئًا لنفسي، ومرآةً أنظر فيها إلى عمق روحي.
عرفتها في أولى سنوات دراستنا بكلية الألسن.
لقاؤنا الأول لم يكن مصادفة عابرة بين زميلتين؛ كان بداية لرحلة عمرٍ طويلة، تشاركنا فيها كل ما يمنح الحياة طعمها الحقيقي: علمٌ وتعلُّم، رحلات وأسفار، ضحكات رنانة، تأملات طويلة، حوارات ممتدة، أحزان خففنا ثقلها معًا، وأفراح انتظرنا لحظات تجمعنا لنحتفل بها.
كل ما يجعل العقل أنضج، والقلب أرقّ، والروح أكثر اتساعًا.
منذ اللحظة الأولى، كانت أماني—التي كنا ننعتها في الجامعة بـ "la formica atomica"—شعلة من النشاط والحيوية، تمتلك صفاءً داخليًا نادرًا، وقدرة عجيبة على النظر إلى الأشياء بعمق غير مألوف.
علّمتني معنى التأمل، ومعنى أن نتوقف أمام التفاصيل الصغيرة التي يمر بها الناس مرورًا عابرًا، بينما تخبّئ في داخلها حكمة تستحق أن نقف عندها ونصغي إليها.
علّمتني أن التفكير ليس رفاهية، وأن اكتشاف الذات رحلة لا تنتهي، وأن الصمت أحيانًا أبلغ من كل قول.
سافرنا معًا إلى إيطاليا… رحلة ما زالت محفورة في ذاكرتي كعلامة طريق لا تُمحى.
هناك تعلمنا وتعرفنا واكتشفنا، وفتحنا أبوابًا واسعة على ثقافة جديدة… تعلمت منها كتابة المذكرات، وطقس انتقاء القلم والدفتر، وتعلمت منها الحياة نفسها.
كنا نتبادل حواراتٍ عميقة، تلك التي تنبع من القلب وتعود إليه.
تشاركنا كل ما مرّ بنا في دروب العمر من مناسبات وأطوار ومحن ولحظات نور.
وحين غادرت أماني إلى المملكة المتحدة، لم يغادرني منها شيء… بقي بيننا خيط لا يُرى، لكنه كان أقوى من المسافات كلها.
كانت زيارتها القصيرة إلى مصر—مرة أو مرتين كل عام—هي المتنفس الذي أعيش عليه عامًا كاملًا.
كانت الباب الذي أفتح معه قلبي، والذراع التي أتكئ عليها، والصدر الذي ألقي عليه أثقال الدنيا.
كنتُ أنتظر عودتها كما ينتظر المرء عودة جزءٍ من روحه لا يعوضه أحد.
أحكي لها ما مرّ بي، فتشرق في كلماتها هداية، وفي حضنها سكينة ترفع عن قلبي ما أثقله.
واليوم… رحلت أماني.
رحلت صاحبة عمري، ورفيقة الدرب التي أحببتها بمحبة لا تعرف الادعاء ولا الاحتفاء… محبة صافية تنبع من مكان عميق في الروح.
فجوات الفقد كثيرة، لكن الفجوة التي تركتها أماني واسعة حدّ الألم، حدّ العجز عن النطق.
حاولت مرارًا أن أكتب وداعها… فارتجف القلم، وتبعثرت الكلمات.
فما معنى الكلام حين يغيب من كان سندًا ودفئًا وطمأنينة؟
أدعو لها بعمق القلب أن يرحمها الله رحمة واسعة، وأن يجمع لها نورًا وسكينة في دار الحق، كما كانت نورًا وسكينةً في حياتي وفي حياة كل من عرفها.
وأدعوكُم أن ترفعوا أكفّ الدعاء لرمز نادر من رموز الإنسانية، لقامة خدمت الثقافة بصدق، ولقلب خدم الجميع بمحبة لا تشبه إلا نفسها.
وداعًا يا أماني…
ستبقين في صدري ما حييتُ.
ستظل ذكراك نورًا لا ينطفئ، وصداقةً لا يمحوها الزمن، وجرحًا جميلًا يذكّرني بأن في هذه الحياة أرواحًا لا تُكرَّر.
رحلتِ يا صديقة الروح، وفي قلبي ما لم أقله لك.
واليوم… دربي بلا رفيق.
يا أماني، كيف تُكتب الكلمات حين تنطفئ نجمة من عمرنا؟
كيف نرتّب اللغة لتحتمل غيابًا بهذا الثقل؟
لا أعرف كيف أكتب وداعًا كهذا…
لكنني أعلم أن الحنين إليك سيظل يسكنني ما حييت.
#نقاش_دوت_نت
أماني حبشي ، كلية الألسن ، إيطاليا،
