من نحن اتصل بنا سياسة الخصوصية
×

المناقشات العلمية بين الطبطبة والتدليل

د.سعيد البسطويسي
المناقشات العلمية بين  الطبطبة والتدليل


على مدارِ الأسابيع الماضية تابعت -قدرًا لا عمدًا- ما ينشره أحدُ الباحثين الحاصلين على درجة الدكتوراة في علم الحديث من كلية دار العلوم، واسمه: كريم مصطفى نفادي، على صفحته من منشورات يدلل فيها على تعنت المناقش الخارجي ا.د عماد الشربيني، وعلى تعمدِ إهانته، وعلى تعنت المناقش الأستاذ الدكتور علي عبد القادر في إجراءات منحه الدرجة بعد إجراء التعديلات، وفوجئت بالباحث في بعض تعليقاته يصرِّح بأن الدكتور عماد جاهل بعلم الحديث، وأن رسالته أكبر من أن يناقشها الدكتور عماد، الذي لا صلة له بعلم الحديث عموما ولا بعلم العلل خصوصًا، وأن الدكتور عماد إنما تعنت معه لما بينهما من الاختلاف المذهبي، بحجة أن الدكتور عماد صوفي قبوريٌّ حسب زعمه، وأن الباحث على المنهاج السلفي القويم حسبما يرى، ثم تابعت ردوده على المعلقين على منشوراته. ثم تمادى فنشر بعض المقاطع من المناقشة بخصوص الموقف من علم العلل بين المتقدمين والمتأخرين طاعنًا في موقف الدكتور عماد، كأن الباحث انقلب مناقشا، وانقلب المناقش باحثًا، أو كأن الباحث أكبر من اللجنة علمًا ومقامًا، فلا يحق لها مناقشته فيما أورده في رسالته، أو لا يحق للمناقش أن يكون على مذهب علمي غير المنهج الذي يشيد الباحث بذكره.

وقد دفعني ذلك لمشاهدة المناقشة، فاستمتعت بإنصاتٍ وتركيز واهتمام لمناقشة الدكتور عماد التي استغرقت قرابة 70 دقيقة، فوجدت المناقشة رصينة دقيقة منصفة، لا حيف فيها ولا ظلم، وأنها كانت انتصارًا محضًا لمن قام الباحث بالهجوم عليهم من الفقهاء والمحدثين، وقد ركز الدكتور عماد في مناقشته على الجانب المنهجي في المقام الأول، وانتهى إلى فساد كثير من أحكام الباحث لمجانبتها للمنهج العلمي السديد، لاعتماده الترجيح فيما يمكن فيه الجمع، ولتعسفه في حق كثير من الأئمة من الفقهاء والمحدثين.

والحقّ أنني بعد هذه المشاهدة والمتابعة لما نشره الباحث وما نشرته بعض المواقع الإخبارية والصحفية من جدل حول هذه المناقشة، وجدت أن ما عدَّه الباحث تعنتًا وإهانةً لا أساس له من الصحةِ من قريب أو بعيد، وأن المناقشة لم تخرج عن السياق المعتاد المتعارف عليه في أغلب المناقشات العلمية، وإن وردت على لسان الدكتور عماد بعض الألفاظ القاسية بعض الشيءِ، كان في غنى عنها (وإن كانت معتادة في النقاش العلمي قديما وحديثا)، وما دفعه إليها إلا حرصه على الانتصار لجموع الفقهاء والمحدثين الذين هاجمهم الباحث وحكم عليهم بالجهل جزافًا، وهذه الكلمات لا تبرر بأي حالٍ هذا العويل المتواصل، ووجدت كذلك أنَّ القضية لا تكمن في تعنت اللجنة، وإنما في نظرة بعض الباحثين لدور المناقشة.

إذ يظن بعضهم أن المناقشة العلمية ليست سوى إطراء لجهد الباحث كأنه -على حدِّ تعبير بعض أساتذتنا- (قد نزل عليه جبريل بالجزء الحادي والثلاثين من القرآن الكريم)، حاشا لله. وأن المناقشين إنما ينبغي أن يخروا ساجدين لما دوَّنه الباحث من الفتوحات العلمية المهيبة والأنوار القدسية المتلألئة، التي لا قِبلَ لأحدهم بها.

ويرجع هذا الظن المعوج الغريب عند الباحثين -من وجهة نظري- إلى ميل كثير من الأساتذة في الآونة الأخيرة للطبطبة على الباحثين كأنهم أطفال في المهد، وتدليلهم كأنهم في نزهة ترفيهية، حتى ظنَّ كثير من الباحثين أن هذا هو النمط المعتاد في المناقشات العلمية. والحق غير هذا تمامًا. 

فالمناقشة الجادة للأعمال العلمية ينبغي أن تكون درسًا رصينًا عميقًا، لتقويم العمل الأكاديمي، والتنبيه على أخطائه، وتتبع سقطاته، لتلافي ما وقع فيه البحث ولإفادة الباحث والباحثين الحاضرين، ولكن بأسلوب لا يقلل من كرامة الباحث، خاصة مع أولئك الباحثين الذين يعانون من الاهتزاز النفسي، فيولولون لأدنى إشارة، ويبكون لأدنى تعريضٍ. 

وأذكر أنني حضرت مناقشة للدكتور علي جمعة في رحاب كلية الآداب جامعة عين شمس، عام 2008م، فوجدته -وهو مفتى الجمهورية آنذاك- يباري الباحث مبارة عالمٍ لعالمٍ، ويستفزه ببعض العبارات القاسية، والباحث يحاول قدر طاقته أن يتجنب النقاش الحقيقي، فقال له: (أنا عايزك تبقى صلب زي المسمار... رد عليا ودافع عن رسالتك).

إن الباحث الحقيقي لا يُربَّى بالطبطبة والتدليل والتفخيم والتعظيم، فهذا الأسلوب وبال على مستقبل البحث العلمي، بل بالمناقشة الجادة العميقة التي تزلزل ما استقر في ذهنه من الأوهام، والتي تحطُّ كذلك من تعظيمه لنفسه وتصوره بأنه ابن بجدتها وأنه أتى بما لم تستطعه الأوائلُ، ولكن كما سبق القول: دون مساس بكرامته الإنسانية أو احترامه العلمي، خاصة في وجود ذويه وأهله، وأن يُوجه النقدُ للبحث لا لشخص الباحث.

ويتصل أسلوب الطبطبة والتدليل في المناقشات العلمية بما نجده من حرص بعض أساتذة الجامعة على تملق الطلاب في مرحلة الليسانس، وذلك بتسهيل المقررات تارة، والاتيان بامتحانات تافهة تارة، والإسراف في منح تقدير الامتياز تارة أخرى، بل إن كثيرًا منهم يجمعوا بين كل ذلك، ويزيدون على ذلك بتملق يصل أحيانًا إلى حدِّ التسول العاطفي، كي يرضى عنهم الطلاب ويشيدون بإنسانيتهم على وسائل التواصل، وهذا مسلك ذميم أدّى إلى ما نحن فيه من هوان الدرجات الجامعية وانحطاط نظرة المجتمع للدرجات العلمية، فأصبح الشائع أن لقب الدكتوراة يحصل عليه كل من هبّ ودبَّ وجمع بعض القصاصات من هنا ومن هناك.

وليس هذا المقال دعوة للقسوة أو التعنت، بل هو دعوة لوضع الأمور في نصابها الصحيح حتى تستقيم الحياة العلمية، فإذا كانت الدراسة الجامعية في مرحلة الليسانس قد فسدت فسادًا لا أمل في إصلاحه بالامتحانات الموضوعية والمقررات الهزيلة، فلا ينبغي أن يستشري الفساد كذلك في مرحلة الدراسات العليا في الماجستير والدكتوراة.

وأما وصف الباحث للدكتور عماد بالجهل واتهامه في دينه وعقيدته، فأمران خطيران، ينبغي ألا يمرَّا هكذا مرور الكرام، بل ينبغي أن يحاسب الباحث على ما تفوه به في حقِّ هذا العالم الكبير، الذي له سهمة محمودة في علوم الحديث خصوصًا وفي العلوم الشرعية عموًما، وكذلك ما اتهم به الأستاذ الدكتور علي عبد القادر من تعنت أو تصفية لحسابات شخصية.

وأما ما أثاره من نقاش بخصوص علم العلل، فلو كان صادقًا في دعواه -ولا أظنه كذلك- لكتب ردوده في رسالته بعد طباعتها في شكل كتاب يرد فيه على المسائل العلمية، أما ما فعله فيدل على أنه يرى نفسه أعلى من اللجنة التي تناقشه، وأنه هو المناقِشُ وليس المناقَش.

وقد ذكَّرني موقف الدكتور عماد الشربيني في انتصاره لجمهور الأئمة الذين انتقدهم الباحث الذي ملأ الأرض عويًلا، بمناقشة أستاذنا الدكتور د. محمد حماسة عبد اللطيف رحمه الله لأحد الباحثين بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة عين شمس، في رسالته التي تقدم بها لنيل درجة الدكتوراة، إذ وجد أستاذنا الدكتور حماسة أن الباحث قد هاجم جماهير علماء اللغة قديما وحديثًا، وخصَّ الباحثُ الدكتور حماسةَ نفسه بالنقد في سبعة عشر موضعًا، فبدأ الدكتور حماسة المناقشة بقوله: "لقد انتقدتني في سبعة عشر موضعًا من رسالتك... وأنا أعفيك من مناقشتها أو الرد عليها أو بيان وجه الحق فيها... لقد تصدقتُ عليك بها، حتى لا تقول إنني أنتصر لنفسي... وأما باقي علمائنا قديمًا وحديثًا فلن أقرَّ لك بنقد حتى تأتيني ببرهان على صحة نقدك له". 

وبالفعل طالت المناقشة لعدة ساعات، وأصرَّ أستاذنا على أن يحذف الباحث هجومه على من طالتهم سهام نقده دون وجه حقٍّ.

فرحم الله أستاذنا الدكتور العلامة محمد حماسة عبد اللطيف، وبارك في عمر أستاذنا الدكتور عماد الشربيني، وأيده بنصره، وسدد على طريق الحق خطاه.

وكل ما أرجوه لهذا الباحث ولمن على شاكلته من الباحثين أن يعودوا لرشدهم وأن يصححوا وجة نظرهم في المناقشات العلمية، وأن يتحلوا بالأدب الواجب عليهم تجاه أساتذتهم. وكذلك أرجو أن ينظر الأساتذة بعين الاحترام والتقدير لأشخاص الباحثين، مع الحرص على تقويم أعمالهم دون المساس بكرامتهم العلمية أو الإنسانية.

والله المستعان وعليه التكلان.

وهذا رابط المناقشة لمن أراد أن يستوثق بنفسه مما جاء في المناقشة.

https://youtube.com/watch?v=tzuR9UewCbk&si=iKU1ajQbjKYGAdKI

#نقاش_دوت_نت 

علم الحديث، كلية دار العلوم، عماد الشربيني، كريم مصطفى نفادي، الدكتوراه، التعنت ، التجهيل، الاختلاف المذهبي