من نحن اتصل بنا سياسة الخصوصية
×

رؤية ذائقية لقصة " ذات ثرثرة متعوس " للأديب أحمد بيضون

إيمان العسال
رؤية ذائقية لقصة

    

العنوان ليس عتبة النص بقدر ما هو ارتباكه الأول اللحظة التي يعلن فيها العمل الأدبي شكله قبل أن يمنح قارئه أية يقين ، نحن أمام عنوان أحسن الأديب أحمد بيضون اختياره "ذات ثرثرة متعوس" ، فكان مدخلًا فلسفيًا لقراءة النص، إذ يزاوج بين فعل الثرثرة كرمز للحياة والحضور، وبين التعاسة التي تُحيل إلى الانكسار والخذلان.

 هذه المفارقة تضع القارئ منذ البداية أمام سؤال الوجود والجدوى: هل الكلام حياة أم عبء فارغ؟ ومن هنا يستمد النص قوته الأولى. أما الشخصيات، فقد بدت أقرب إلى الظلال العابرة منها إلى العلامات الدلالية الفاعلة، فهي لا تنشئ رموزًا مستقلة بل تذوب في سياق الأحداث، وكأنها تتلقى أثر العالم أكثر مما تصنعه. هذا الحياد الظاهري في التسمية يفتح بابًا لتأويل فلسفي آخر ؛ وهو أن الإنسان ـ داخل النص ـ لا يملك هوية راسخة بقدر ما هو كيان هش يتشكل وفق ما يُفرض عليه . 


بذلك، يمكن القول إن العنوان حمل الثقل الرمزي للنص، بينما بقيت الشخصيات انعكاسات صامتة تعزز فكرة الاغتراب بدلًا من مقاومتها.

بداية القصة جاءت مدخلًا قويًا لجذب القارئ، إذ افتتح الكاتب المشهد بصورة حسية مكثفة: حرارة شمس "بؤونة"، وقيظ يتسرب إلى الحروف، وأفكار متلاطمة في لجّة سوداوية. هذا الاستهلال لا يكتفي بوصف الجوّ الخارجي، بل يخلق مناخًا نفسيًا متوترًا يجعل القارئ يتوقع مأساة أو انكسارًا وشيكًا ، فينجذب ليتابع أين سيقوده النص.

 حضور الحرّ والضيق منذ السطر الأول يمنح المدخل قوة وجودية، كأن الكتابة نفسها تجري تحت شمس خانقة.

في بعض المواضع من النص بدا الأسلوب أقرب للتقريرية ، مثل جملة "الزمكان كما أشار أينشتاين"، إذ تُقحم القارئ في إطار علمي مباشر قد يضعف من وهج الخيال الأدبي، وكان يكفي أن يلمّح الكاتب إلى تداخل الزمان بالمكان عبر الصورة والرمز. غير أنّ هذا الميل إلى التصريح لا ينتقص من أثر اختيارات أخرى جاءت محمّلة بالرمزية ، مثل استدعاء الريحانة والزنبقة السوداء والياسمينة المخملية في مشهد الفتاة ، وهي أسماء لا تصف ظاهرها فحسب بل تبني صورة نفسية متشابكة : بين البراءة والغرابة والجاذبية، بين النقاء والظلال ؛ كذلك فإن عبارة "أدندن كطنين النحل" تكشف عن قصدية عالية؛ فالنحل لا يرمز للصوت وحده، بل للعمل الدؤوب، للقلق الذي لا يتوقف، وللحلاوة المختبئة خلف الألم. لقد كان النحل أكثر انسجامًا مع توتر النص وإلحاحه الداخلي. 

كل ذلك يجعل القراءة محفوفة بالفضول ، إذ يثير النص أسئلة لا تنتهي، ويدفع القارئ إلى الرغبة في التوغّل وراءه ، سواء جاء هذا الفضول من اندهاش إيجابي أو من حيرة مربكة، فالمهم أنه لا يترك القارئ على الحياد .

تتجلى قوة القصة في قدرتها على بناء رمزي يعكس اغتراب الإنسان المعاصر؛ إذ يظهر النداء كرمز للبحث عن المحبة في عالم فقد ميزانه، بينما يشكّل الصمت المحيط به جداراً وجوديا يضاعف الإحساس بالضياع .

 غير أن هذا البناء ، رغم عمقه، يظل في بعض أجزائه منفصلًا عن التجربة الشعورية للشخصيات، فلا يتجذر بالقدر الكافي لخلق التوتر الدرامي أو إحداث معايشة وجدانية لدى القارئ .

 ومن هنا يتحدد الضعف ، النص قوي من حيث الفكرة والرمزية، لكنه محدود من حيث الأثر العاطفي والدرامي.

يأتي اختيار آلة الثيرمين ليضيف بُعدًا فلسفيًا آخر، فهي تُعزف عن بُعد وتخلق موسيقى بلا لمس، ما يعكس طبيعة العلاقات داخل النص: قرب ظاهري يقابله بعد جوهري، تواصل قائم على الحضور الصوتي لا حرارة الجسد. والأهم أن هذه الآلة لا تُنتج نغمتها إلا من خلال طبيعة مادتها " الخشب " ، ما يكشف عن مفارقة عميقة : نحن نظن أننا نتحكم في مسارات حياتنا، لكن هناك دومًا مادة أصلية أو قدر خفي يمسك بالخيوط.

كما أن الإشارة إلى "جيفونشي" لا تأتي كترفٍ لغوي، بل كرمز لعالم سطحي يواجه عتمة الداخل، عالم يقوم على الاستعراض والزينة أكثر من الجوهر. وفي المقابل، يظهر "ڤرجيل" بوصفه مرشدًا كلاسيكيًا يقود في الظلمات ، فيحيل إلى عجز الكاتب عن الإفلات من سلطة النصوص الكبرى ، واحتياجه دائمًا لدليل يرشده في متاهة وجوده.

أيضا الإشارة إلى فرجيل في القصة يكشف أن الكاتب متأثر بالأدب الغربي ويحب أن يربط نصه برموز إنسانية أكبر.

 هذا يمنح النص عمقًا إضافيًا ، لكنه في الوقت ذاته قد يربك القارئ الذي لا يعرف من هو فرجيل. فالقارئ المثقف سيجد في ذلك إشارة ذكية وامتدادًا للمعنى، بينما القارئ العادي ربما يتساءل: ما المقصود؟ وهنا يظهر السؤال: هل أراد الكاتب أن يخاطب الجميع بإختلاف مستوياتهم الثقافية ، أم أنه اختار طريقًا يجعل نصه أثقل قليلًا لكنه أكثر ثراءً؟

هكذا يصبح النص مرآة لصراع فلسفي بين الكاتب المأزوم وشخصيته المتمردة "رُوقه" : الأول يسعى لإخضاع العالم لسطوة حزنه، والثاني يرفض الانقياد ويطالب بحياة مختلفة، مليئة بالسطحيات أحيانًا والحرية دائمًا.

 ومن هنا يطرح النص سؤالًا جوهريًا: هل نحن من نكتب نصوص حياتنا، أم أن النصوص والأقدار تتمرد علينا لتكشف هشاشتنا وتفضح وهم سيطرتنا؟

 النهاية، جاءت لتضاعف هذا التوتر بدل أن تحسمه : "لكن لماذا أنا أحكي الآن ما حدث.. حتى الموت يفر مني ! " .


 هنا يترك الكاتب القارئ أمام خاتمة مفتوحة معلّقة بين الحياة والموت، بين وجود الكاتب وعدمه. وهي جملة تُغري القارئ بالتفكير في مصير النصوص والشخصيات معًا ، وكأنها تقول: إذا كان الموت يفرّ ، فهل يبقى للإنسان خيارٌ آخر؟ بذلك تنجح النهاية في إثارة القارئ فلسفيًا ووجدانيًا، وتُبقي النص مفتوحًا على احتمالات لا تنتهي.

#نقاش_دوت_نت 

آلة الثيرمين، الثرثرة، الحياد الظاهري، الزمكان