من نحن اتصل بنا سياسة الخصوصية
×

رؤية ذائقية لقصة " اللعين " نجوى عبد الجواد

إيمان العسال
رؤية ذائقية لقصة



أحيانًا لا نكتب النص بقدر ما نكتشف أنفسنا من خلاله ، فحين يُولد الإنسان في حضن الخوف، يظن أن الحذر فضيلة، وأن التردد عقل، وأن القيود حماية.

بقصة الأديبة نجوى عبد الجواد تتجلى هذه الصفات فيما سمته اللعين .

في لحظة ما يقول البطل: "ألوذ بالقرآن ربما" — جملة مقتضبة، لكنها تفتح أبوابًا ثقيلة على الداخل، وتلخص صراعًا طويلًا مع كيان خفي يسكن النص من بدايته حتى نهايته

هذا "اللعين" لا يأتي كغواية خاطفة، ولا كصوت شيطاني مجرّد، بل يظهر كالظلّ المتوارث، المتنكر أحيانًا في هيئة نصيحة، أو خوف مشروع، أو حكمة مأثورة.

هو ليس صراعًا مع ذنب، بل مع وصاية دائمة، بدأت منذ لحظة الولادة، ورافقته حتى لحظة ولادة ابنه.

إنه لا يمنع الخطأ فحسب، بل يمنع الفعل ذاته. يُشكّك في القرار، ويقمع الرغبة، ويعلّمك أن تتوارى خلف الحذر.

في لحظة القلق والاضطراب، لم يجد البطل ملاذًا إلا القرآن. لكنه قال: "ألوذ بالقرآن ربما".


لم يكن هذا شكًّا في القرآن، بل ترددًا نابعًا من داخله هو، من قلبٍ أرهقته التربية على الخوف، ومن عقلٍ تربّى على الحذر أكثر من اليقين.

"ربما" هنا لا تخص الملجأ، بل تخص قدرته هو على النفاذ إليه بكامل الاطمئنان، بعد أن تشرّب صوتًا داخليًا لا يتوقف عن التحذير، حتى وهو في حضرة السكينة.

وهنا تتضح المأساة الحقيقية:

ليس أن البطل بلا ملاذ، بل أن الخوف الذي عاشه شوّه شعوره بالثقة في أي قرار، حتى في لحظة الالتجاء إلى ما يعرف يقينًا أنه مصدر الأمان.


هكذا، يصبح "اللعين" أكثر من وسوسة ؛ إنه الوصيّ الصامت الذي يربي الإنسان على الحذر لا على الوعي، على الطاعة لا على الحرية، وعلى اجتناب التجربة لا التعلّم منها.

منذ اللحظة الأولى في حياة البطل، لا يُقابل العالم كمساحة مفتوحة يمكن للوعي الذاتي أن يتكوّن فيها بحرية، بل يُوضع داخل قوالب مسبقة، حيث تُعرّف الحماية بالمنع، والحب بالتقييد، والأمان بالصمت.

 إن الكائن الذي وُلد لتوّه لا يجد نفسه في علاقة مباشرة مع العالم، بل مع منظومة من التصورات الجاهزة، التي تتسلل إليه قبل أن تتكوّن لغته. هنا يبدأ الوعي الجمعي في فرض منطقه، لا بوصفه رأيًا شائعًا، بل كنسق ضاغط يُشكّل الداخل النفسي للطفل قبل أن يدرك ذاته بوصفها كيانًا منفصلًا. وهكذا، يتقدّم "اللعين" لا كشخص أو فكرة، بل كممثل لهذه السلطة الجمعية، التي تتغلغل في العلاقة بين الجسد والعالم، وبين الأم وابنها، وبين الفرد وما يُتوقَّع منه.

إن الوعي الذاتي، في هذه اللحظة، يتراجع لصالح منظومة قسرية تُلقّن الإنسان منذ ميلاده أن وجوده مشروع خضوع لا مشروع تحقّق ؛ الخوف لا يأتي كرد فعل على التجربة، بل يؤسَّس بوصفه اللغة الأولى لفهم العالم ؛ والطمأنينة، حتى إن وُجدت، لا تُسلَّم للفرد دون وساطة من هذا "اللعين"، الذي يضمن استمرار التوازن لا بالثقة، بل بالتحذير الدائم. ومن هنا، لا يُبنى وعي البطل على إدراك حر، بل على حذر موروث.

لكن في مقابل هذا البناء للوعي المقهور، تظهر فجأة فقرة "سيارة الشرطة في شارعنا" كتعثر سردي، لا تُمهَّد له نفسيًا، رغم انسجامه مع منطق الخوف الحاكم للنص.

 جاءت الفقرة كنقلة مفاجئة في السياق، تفصل بين توتر داخلي عاطفي ومشهد خارجي اجتماعي دون تمهيد كافٍ، مما يُحدث خللًا طفيفًا في الإيقاع النفسي للنص. رغم أن ظهور الشرطة ينسجم مع فكرة "اللعين" كوسواس جمعي يزرع الخوف من السلطة، إلا أن غياب الرابط الشعوري يجعلها تبدو معزولة سرديًا. لذا، يمكن إما ربطها بلحظة وعي داخلية تستكمل خط التوتر، أو حذفها دون أن يختل البناء، لأن النَّسَق الرمزي للنص قد اكتمل بالفعل.

أيضًا رغم حضور "اللعين" كرمز تربوي متجذر، يظل غياب الأب والأم بعد مشهد الولادة فراغًا لافتًا في السرد؛ فلا نرى لهما دورًا مباشرًا في تربية البطل أو تشكيل خوفه. 

كيف ترسّب الحذر؟ مَن غرس الخوف؟ من لقّنه فضيلة الصمت؟ 

الأسئلة تتكاثر، دون أن تُقابل بتجسيد فعلي لمَن يُفترض أنهم وكلاء هذا الوسواس. وبهذا، يبدو "اللعين" كأنه نشأ من مناخ عام ، لا من علاقة حقيقية، مما يُضعف أثره الوجداني، ويحدّ من اكتمال البنية النفسية للنص.

 "اللعين" في هذا النص كفكرة ليس مجرّد وسوسة عابرة، بل وسواس قائم بذاته ، لا في الخطأ بل في النظام ؛ والفرق بين الوسوسة والوسواس جوهري ، الأولى لحظة اهتزاز، أما الثانية فهي تركيب نفسي واجتماعي راسخ، يوجّه الإنسان من حيث لا يدري.

 إن ما يقدمه النص ليس وسواسًا فرديًا، بل صورة لوسواس قهري جمعي، يُغرس في الفرد حتى يغدو هو ذاته أداة قمعه. هذا الوسواس لا يُفرض من الخارج، بل يُستبطن، ويتحوّل إلى ضمير غائب، يعمل دون أن يُرى، ويقود السلوك باسم الحذر، لا باسم الوعي.؛ فيراقب الإنسان نفسه نيابة عن الجماعة، ويتحوّل الخوف إلى معيار أخلاقي، والتردد إلى حكمة، والصمت إلى فضيلة.

اللعين توصيف لحالة، لوسواس يعيش في الأفعال المؤجلة، والقرارات المحسوبة بعين الجماعة. لا يُعبر عن شيطان شخصي بقدر ما يعكس بنية اجتماعية نفسية تسكن العلاقات اليومية وتعيد إنتاج ذاتها بهدوء، في تفاصيل مألوفة لا تثير الشك. وحين تختار الكاتبة هذه التسمية تحديدًا دون غيرها، فإنها لا تسعى إلى إدانتنا، بل إلى تفكيك هذا الصوت الموروث الذي تسلل إلى داخلنا حتى ظنناه نحن.

في نهاية النص، لا يتغير المسار بل يعيد إنتاج نفسه: الأب الذي وُلد تحت وصاية "اللعين"، يغدو هو ذاته أداته الجديدة. داخل غرفة الولادة، يعود المشهد الأول، لكن من موضع مقلوب؛ لم يعد البطل طفلًا يُقرَّر مصيره، بل طبيبًا يُقرّر مصير غيره. ومع ذلك، لم يمنحه العلم حريته ، بل جعله يُسرع في الحسم، كأنما التعليم لم يُحرره من الخوف بل أعطاه وسيلة لتبريره.

إنه تكرار نابع من اللاوعي، لا لأن البطل لم يكن ذكيًا، بل لأن الموروثات — كالتردد والخوف والاحتياط — تُورَّث في اللاوعي، لا في المعرفة.

 بهذا، يُظهر النص أن "اللعين" لا يسكن الجهل، بل يعيش في الأنظمة المستقرة، في الأبوة، في المؤسسات، وفي القرارات التي نظنها عقلانية بينما تحركها تقاليد راسخة .

هكذا، لا يغلق النص على خلاص، بل على دورة: الأب الذي ظن أنه كسر القيد، وضعه بنفسه على الجيل التالي، دون أن يدرك. إنها سلسلة لا تنتقل بالوعي بل العادات ؛ والخوف المتوارث.

في النهاية لا يسعني إلا أن أقول : ما لم يُفك "اللعين" في داخلنا، سنظل نكرره باسم المحبة، ونورّثه بوهم الحماية.

#نقاش_دوت_نت 

اللعين، غواية خاطفة، صوت شيطاني