مانيكان
لا أستطيع أن أبعد نظري عن هذا القابع فوق المانيكان الخشبية المقيتة، تلك المانيكان التي أسمعها في بعض الليالي تسخر مني وتمدح نفسها بكبرياءٍ وغرورٍ؛ لأنها تستمتع بتلك اللمعة وهذا الكم من الأصداف والكسرات التي تحدد الوسط وتبرز دورانه بدقة شديدة، لا أعرف كيف تتحمل حياتها وهي مجرد قطعة من الخشب المنحوت بدقةٍ مريبة، وليس لها دور في الحياة إلا أن تحمل الفساتين وتعرضها على القاصي والداني حتى تَبلى وتُستبدل بأخرى جديدة.
في ليالٍ أخرى، أسمع ذلك الفستان الملعون وهو يستعرض جماله عليها في غرورٍ وتباهٍ مميت، كليهما يتناغم مع صاحبه لكن تناغمًا شريرًا لا يرحم.
مر أكثر من شهرٍ منذ حملته أمي إلي غرفتي، وتعللت لحظتها أنه سيكون حافزًا قويًا لأكمل نظامي الغذائي شديد القسوة وأصل للوزن المطلوب. وكانت تكرر دائما أنه لا بد أن أكون نحيفة في زفاف أختي الصغرى؛ لأستطيع الدخول في هذا الفستان الرائع، وساعتها فقط سأضمن الفوز بعريس من الحضور.
لن أنكر، لقد حاولت بكل ما أستطيع، حاولت جاهدةً أن أفعل ذلك لإرضاء أمي، ولأحافظ على مظهر أختي أمام العريس وأمام أهله أصحاب المركز الاجتماعي المرموق، وأيضًا لأسعد أبي الذي وافق مجبرًا أن يزوج الصغيرة قبل الكبيرة بعد أن فقد الأمل في زواجي؛ كنت أسمعه يقول لأمي بعد نظرة حسرة:
_من سيتزوج تلك الكتلة البشرية المترهلة؟!
ثم يعنفها ويأمرها أن تتصرف؛ لأنها الأعلم بأمور النساء، وأمي للحقيقة سيدة لا تمل ولا تتوقف أبدا، تحاول وتعيد المحاولة والسنوات تمر والأمل في التغيير يكاد يختفي، لكن في تلك اللحظة بالذات تجد أمي طريقة جديدة أكثر تطورًا حتى وصلنا لتلك الخلطة السحرية.. العصير الذي لا أتناول غيره من شهورٍ، وليس لي حق الاعتراض طبعا حتى كرهت الحياة، كرهت العالم الخالي من طعم اللذة، كرهت النظرات والهمسات والتأنيب، كرهت نفسي.
إلي أن جاء اليوم المرتقب، ولم تكن أختي صاحبة الثوب الأبيض محط الأنظار كالمعتاد في كل الأعراس، كنت أنا.. أنا التي ينتظر الجميع رؤيتها تدخل في الفستان.
دعوت كثيرًا في تلك الليلة ومن قلبي أن أدخل في ذلك العنيد، وأن يُغلق السَّحاب بسهولة وألا أسمع قصائد اللوم والسخرية من أمي وأختي ومن الجميع؛ فلم أعد أحتمل ذلك السخف بعد الآن، دعوت أن يحدث ذلك بأي طريقة المهم فقط أن يحدث وأنتهي من هذا الألم.
جاءت اللحظة الحاسمة التي كنت أخشاها، ووقفت شبه عارية في منتصف الغرفة، الجميع ينظر لي بترقب ويفصص خريطة هذا الجسد الملعون، أغمضت عيني وحاولت أن أغلق أذني حتى لا أسمع ذلك الهمس المقيت بأن خطة أمي لن تنجح، وأن الوضع يحتاج لمعجزة، وأن الفستان سيتمزق قبل عبور رقبتي.
ها هي أمي ترفع الفستان من فوق المانيكان، تحمله على يدها تتقدم بخطواتٍ ثقيلة كأنها جبالُ على صدري المسكين الذي تتسارع دقاته حتى كاد ينفجر من الرعب، أشعر أنها تحمل كفنا لصاحب ذنبٍ لن يغتفر.
جاءت اللحظة وأصبح في يدي، الجميع ينظر وينتظر وأنا أترجاه أن يتخلى عن سخريتة وأن يكون حنونا وديعا ولو لمرة واحدة، ولكنه نظر لي تلك النظرة الخبيثة التي أعرفها وتوعدني بالخذلان والمهانة وعدم الرحمة.
فتوقفت عن الحركة وأصابني السكون الرهيب، الوقت يمر وتحولت الهمهمات والهمسات إلي أصواتٍ عالية مضجرة، والكثير من الضحكات واللوم والتعنيف. لم أعد أحتمل تلك الحياة بعد الآن؛ فصرخت بصوت مدوٍ:
_ كفى.
ليتوقف الجميع عن الحركة لكن في ترقب، أخذت أنظر إليهم ثم اتخذت قراري الذي لا رجعة فيه؛ أغمضت عيني وخضعت.. وتحولت إليها، تحولت إلي مانيكان خشبية نحيفة منحوتة بدقة مريبة، لحظتها طار الفستان فرحًا وأخذ يلتف حولي بدلالٍ وإجلالٍ، وصفق الجميع بفرحٍ وسعادة وأولهم أمي.
رانية المهدي
قصة من المجموعة القصصية
مفاتيح
تُمن شاي
المجموعة متوفرة على أبجد
#نقاش_دوت_نت
الفستان الملعون، المانيكان، خريطة الجسد
