من نحن اتصل بنا سياسة الخصوصية
×

الفصل الأول (1) " اذهبى إلى الجحيم أيتها الشيطانة" من رواية " نور حياتي "

جيهان محمود أحمد
الفصل الأول (1)



   بعينين يتطاير شرر الكراهـية منهما أطلق يوسف كلماته وأتبعها بطلقة استقرت فى قلب المرأة التى يحجب الظلام الدامس ملامحها تمامًا، فسقطت جثة هامدة ظهرت امرأة أخرى من بعيد تقترب منه، وكلما اقتربت خطوة اقترب متحفزًا مطبقًا يده على مسدسه حتى أصبحت على مسافة قريبة منه دون أن تتضح ملامحها، فأطلق رصاصته لتستقر فى قلبها فسقطت بلا حراك.

  باغته ضوء قوى من بعيد، فأشاح بيديه مبعدًا الضوء الذى زحف نحوه فركض يوسف هربًا منه فتتبعه الضوء، فظل يركض وفجأة اصطدمت جبهته بحائط فسقط مغشيًا عليه.

   انتفض يوسف تتسارع دقات قلبه لاهثًا، يتأمل الحجرة فَزِعًا ثم بدأت السكينة تتسلل إلى نفسه رويدًا رويدًا مع تسلل شعاع الشمس بخفة غازيًا ظلام الحجرة، ولكنه يعجز عـن غزو القلوب المظلمة لتشرق وتنبض فيها الحياة

   القلوب المظلمة لايغزوها سوى قلوب مضيئة خُلقت على شاكلتها وتناقضت فى نبضها لتمنحها الحياة، لكن حرارة الشمس لم تنفذ إلى قلب يوسف المتجمد، فـتقلب فى فراشه محاولًا إبعاد النورعن عينيه، لا يدرى هل يريد إبعاده عن عـينيه أم عـن قلبه ؟ هذا القلب الذى ارتبط بالحياة بدقات كبندول الساعة تعلن عـن وجودها لا عـن حياتها.

   تثاءب يوسف وظل يحملق فى الحجرة المظلمة إلا من نور الشعاع المتطفل، فظل يرقبه ساخطًا شاردًا فى ذلك الحلم الذى يراوده من حين إلى آخر، واستقر فى عقله أنه سيصير قاتلًا يومًا ما، فأصابه ذلك بالفزع

   لم يطل شروده كثيرًا قـررأن ينهض من سريره وجذب الستائروفتح النافذة متأملًا الحديقة التى يطل عليها منزله بحى المعادى، ثم رفع رأسه نحو السماء فبدا ضوء الشمس قويًا لا يحتمله فحجبه بكفه ثم أغلق النافذة وجذب الستائر، وتناول المنشفة ثم اتجه نحو الحمام ووقف تحت الصنبور تندفع منه المياه بقوة تتناثرعلى وجهه وجسده، بينما كان يوسف شاردًا تمامًا.

    لقد حباه الله مقومات الجاذبية من الصبا إلى القوام الممشوق، والوجه الوسيم الذى نحته الخالق كما ينحت المَثَّال المحترف تحفة رائعة فجاءت عيناه الواسعتان العميقتان تجتذبانك كما تُجتَذب الفراشة نحو النور، وسرعان ما تكتشـف جمودهما بعد أسرك فتحترق كما تحترق الفراشة بالنار، وأنفه يعبر عن كبرياء واعتزاز بالذات وشفتان مطبقتان معظم الوقت تؤثران الصمت على الكلام فلا تخرج مفرداته إلا للضرورة

   أغلق يوسف الصنبور وجفف وجهه ولف المنشفه حول خصره، ثم خرج متجهًا إلى حجرته فأضاء نور الحجرة التى بدت عامرة بقطع الأثاث الفاخرة، ولكنها تخلو من حـياة فلا تعرف الزهور إليها سـبيلًا، ولا اللوحات الفنية مكانًا ولا صورًا لأشخاص سوى صورته .

   ارتدى السروال ثم القميص، وعلق رابطة العنق حول ياقة القميص دون أن يعقدها، ثم وضع عطرًا إنجليزيًا فواحًا وصفف شعره الحريرى الأسود، وحمل سترته وغادر الحجرة.

   اتجـه إلى صالة الاستقبال التى تحوى ركنين: الأول طاقم صالون ذهبى فاخر به جهاز إسطوانات (جرامافـون) وبجواره مكتبة تحوى إسطوانات لكبار المطربين، والثانى يحوى سفرة فاخرة حفلت بألوان الطعام الفاخر من زبد وجبن فرنسى وبيض مسلوق وشرائح خبز وفنجان القهوة باللبن مشروب يوسف المفضل.

   جلس عجوز إلى السفرة تجاوز الخامسة والستين من عمره، تملك الشعر الأبيض من رأسه ولكن لم تتملك علامات الزمن من وجهه الذى بدا متماسكًا بجسد رياضى يناقض عمره، مرتديًا نظارة تعينه على القراءة، مشغولًا بمطالعة الصحيفة عـما يحدث حوله فلم يلتفت إلى حضور ذلك الشاب الذى أشرف على تربيته، رغم أنه لا صلة دم تربطه به ولكنه ينتمى إليه أكثر مما لو جاء يحمل جيناته؛ حُرم مختار الراوى ــ  زوج عمة يوسف ــ من الإنجاب فمنحه الله ذاك الطفل الذى فقد والديه فى طفولته  لقد جمعهما الحرمان ثم الحب الذى نما مع الزمان، فصار ذلك الشاب قرة عينه وقلبه النابض بعد رحـيل زوجته حبيبة العمر0

   ظل يوسف برهة يتأمل مختار الذى بدا مشغولًا تمامًا بمطالعة صحيفة أجنبية عنه، فقرر يوسف أن يلفت انتباهه فتساءل وهو يضع الزبد على شريحة الخبز: 

ــ عمى، ما الذى يشغلك؟

   انتبه العجوز ورمقه بنظرة من فوق نظارته ثم خلعها ووضعها على السفرة بضيق شديد تجاورها الصحيفة0 فابتسم يوسف وقال:

ــ صباح الخير يا عمى

ــ صباح النور يا يوسف

أخرج العجوزغليونه من جيب قميصه ووضعه فى فمه، ثم أشعله ونفث دخانه  فى الهواء مخرجًا شحنة غضب قوية، فتساءل يوسف:

ــ هل تحمل الصحيفة  أنباءً سيئة؟

ــ نعم أنباء سـوداء

ــ لماذا؟!

ــ لقد رفض الأمريكان تمويل السد العالى

يرشف العجوز من فنجان القهوة السادة الأثير لديه بينما يبدو يوسف غير مبالٍ:

ــ أمرمتوقع يا عمى

ــ لم أتوقعه؛ دائمًا لدىَّ فـيض من أمل يغذى روحى ويحميها من اليأس

ــ إذا كان الأمل فى الله فليكن فيضانًا كفيضان النيل السعيد الذى نحلم أن يكبح جماحه هذا السد المرتقب، وإذا كان فى هؤلاء فليجف كجفاف النيل الذى نأمل مواجهته بهذا السد أيضًا

ــ الأمل دائمًا فى الله يا ولدى، ولكن إرادته تتحقـق بالأسباب والبشر جزء من هذه الأسباب

ــ البشر! ألا تتذكر ما فعلوه باليابان فى الحرب العالمية الثانية؟! ولكن الرئيس خارج البلاد كيف أعـلنوا رفضهم؟!

   يرشـف يوسف من فنجان القهوة باللبن بينما ينفث مختار دخان غليونه فى غضب: 

ــ  هذه هى المهانة الحقيقية؛ استدعى وزير الخارجية الأمريكى "فوستر دالاس" سفيرنا لديهم السيد "أحمد حسين" وأخبره بالرفض، وعندما خرج من مكتبه وجد وكالات الأنباء تذيع الخبر

ــ إنها مهانة بالغة! ولكن ما أسباب الرفض؟

يشير مختار بكفه إلى الجريدة ثم يعقب:

ــ مصر دولة فقيرة وبناء السد سيجبر المصريين على تقشف أكثر من خمسة عشر عامًا، كما أنَّ مياه النيل ليست ملكًا لمصر وحدها؛ هناك دول أخرى على مجرى النهر.

ــ كذب فـاضح ومهانة فائقة أراها تؤصل لسياسة جديدة ستتبعها أمريكا معنا

ــ نعم وغالبًا يكمن السبب الحقيقيى فى السلاح الذى حصل عليه جمال عبد الناصر من المعسكر الشرقى ربما يرونه عـميلًا للاتحاد السوفيتى، فقرروا القضاء عليه حتى يخسروا أول حليف لهم   فى العالم العربى ولا سيما أكبردولة عربية.

ــ عميل للاتحاد السوفيتى! مازال الشيوعيون فى السجون وهذا يدل على رفضه استرضاء الاتحاد السوفيتى، كما أن مصر لا تنتهج سياسة شيوعية.

ــ هذا رأيك أنت أما هم فلهم رأى آخر هو ما يحرك الأحداث الآن.

ــ السبب الحقيقى يا عمى فى تقديرى هو الضغط عليه من أجل الاعتراف بإسرائيل، وقبول قرار التقسيم وإن قبلت مصرسيتبعها العرب وبذلك يضمنون أمن إسرائيل.

ــ هو لن يقبل بهذا مطلقًا يا يوسف والسؤال الذى يطرح نفسه الآن هل سيخضع ويتجاهل هذا المشروع العملاق أم سيواجههم؟

ــ أنت من طرح السؤال يا عمى وأنت أيضًا من سيجيب عنه.

ــ وما دورك فى النقاش؟! متفرج أنت إذن.

يبتسم يوسف ثم يرشف من القهوة باللبن:

ــ  إن تحليل شـخصيات الناس جزء من عملك كطبيب نفـسى.

ــ  لقد فعلت ذلك على الفور منذ لاح نجمه فى الأفق.

ــ اعـرض مهارتك إذن.

ــ إن المقدمات تأتى بالنتائج لقد صمد فى حصار الفالوجة فى حرب فلسطين وسـط ظروف عـصيبة وهذا يقـودنا إلى شخصية ترفض الاستسلام، ولاتعـرف إلا الصمود فى الأزمات.

ــ أضيف أمرًا آخـر حتى لا ألعب دور المتفرج، توقيع اتفاقية الجلاء يشير إلى إصراره على الاستقلال لذا فالسؤال الآن: ماذا يدور برأس الأسد ردًا على الإهانة المزدوجة.

ــ لاأعلم ولكن فى ضوء كل ما تقدم أستطيع ان أجزم أنه سيكون ردًا عـنيفًا.

ــ وسيؤصل لصورة جديدة لمصر أمام القوى العظمى بل العالم كله.

ــ ولكن كيف السبيل يا يوسف إلى تمويل السد ؟! وتكلفة بنائه باهـظة .

   يبتسم يوسف مهونًا الأمر على الطبيب العجوز:

ــ لا تتعـجل الأموريا عـمى، علينا أن نتسلح بالصبر فى مواجهة الفضول القاتل، ولننتظر ما ستسفر عنه الأيام.

ــ  أوافقك الرأى فلنضع حديث السياسة جانبًا ولنتحدث عن الحياة.

ــ  الحياة! حياة من؟!

ــ  حياتك أنتَ يا ولدى.

   يرمقه يوسف بنظرة من فهم ولكنه يتجاهله فورًا ويرشف فنجان القهوة باللبن معقبًا:

ــ  أنا على خير ما يرام؛ أتقدم فى عـملى يومًا بعد يوم.

ــ  أنت تعى ما أقصد.

ــ  أنا لا أفهم ما ترمى إليه.

ــ  سامحك الله أنت تصرعلى إيلامى وحرمانى من راحة البال.

ــ  عمى أرجوك لقد أغلقنا هذا الأمر.

ــ لن أغلقه أبدًا؛ لا أحتمل ان أتركك وحيدًا فى هذه الحياة.

ــ  لستُ وحيدًا؛ لدىَّ عملى الذى أعشقه وهواياتى، وحياتى التى ترضينى وتكفينى.

ــ  لاقيمة لكل هذا بدون زوجة حنون تشاركك.

   يقاطعه يوسف بحدة:

ــ  إن قلبى طاهر برئ لا أريد أن تدنسه امرأة، أو تصيبه خيانتها فيذبل سريعًا.

ــ  بل سيذبل لأنه لم يعرف الحب ولم تدخله امرأة ما أعجب هذه الحياة! طبيب القلوب لا يؤمن    بالحب الذى يشفى القلوب.

ــ  الحب خديعة تجيدها المرأة للاحتيال على الرجل والحب لا يشفى بل يقتل.

ــ  لم يخلق الله البشر متماثلين.

ــ هذا ما أريدك أن تعرفه، لك قناعاتك التى أحترمها ولى قناعاتى التى أرجو أن تحترمها.

   يتنهد العجوزويشعل غليونه فى غـضب شديد بينما يرشف يوسف القهوة كاتمًا غضبه، يرمقه العجوزبنظرة تنبئ عن رجائه فى التحدث معه فى أمر مُلحٍ ولكنه يتراجع.  

يدق جرس الهاتف فينهض يوسف:

ــ  إنها المستشفى بالتأكيد لقد استدرجنا الحديث ونسيت العمل.

يتجه نحو الهاتف فى ركن الصالون ويجيب:

ــ  آلو ...نعم أنا ...جهزوا غرفة العمليات أنا قادم فـورًا

يضع السماعة ويسرع نحو السفرة فيرتدى سترته ويعـقد رابطة عنقه

ــ يبدو أن المريض حالته خطيرة.

ــ نعم، علىَّ الذهاب فورًا.

يلتقط يوسف سلسلة المفاتيح متعجلًا:

ــ أراكَ مسـاءً يا عـمى بمشيئة الله

ينصرف يوسف مسرعًا ويغلق الباب خلفه بينما يتنهد الطبيب العجوز:

ــ  المساء يعنى العيادة والمرضى ثم جلسة الشطرنج ثم النوم استعدادًا إلى يوم آخر جدوله كسابقه ولاحقه رتيب؛ يحيل الحياة إلى عبء ثقيل.

يأتيه صوت من داخله مؤنبًا ومعاتبًا:

ــ لا تكن جاحدًا بنعمة الله؛ فلديك عملك ومرضاك الذين لاتنتهى حكاياتهم وإن كانت مؤلمة فهى تحمل جديدًا يحتاج إلى تفكيرك، وحينما تتمكن من تخفيف آلامهم تحقق سعادة تنسيك آلامك، وهذا الشاب الرائع الذى منَّ الله به عليك عـن أى ملل تتحدث إذن؟!

ــ ربما أخطات التعبير وجانبنى الصواب

يأتيه الصوت من داخله:

ــ ربما قصدت شعورك بالوحدة حينما تأوى إلى فراشك، تذكر أنك من فرضها احترامًا لذكرى حبيبة العمر، فلِمَاذا الضجر والشكوى؟!

ــ إن الشكوى تراودنى أحيانًا لأننى بشر يمل ويفتر، وأبثها إلى الله الذى يعلم طبيعة نفوسنا ويرحمنا ولا يسفه آلامنا وبالتأكيد أحمده على ماذكرته أيتها النفس القاسية بل أزيدك من ذكر نعمه الصحة الموفورة ويسر الحال

يتنهد مختار ثم يشعل غليونه ويرتدى نظارته ويعود إلى مطالعة الصحيفة من جديد.

!!!!!!

#نقاش_دوت_نت 

القلوب المظلمة، بندول الساعة ، مقومات الجاذبية، حي المعادي