من نحن اتصل بنا سياسة الخصوصية
×

سيرة ناقصة لشاعر اكتمل: رياض الصالح الحسين

معتز صلاح
سيرة ناقصة لشاعر اكتمل: رياض الصالح الحسين


هل البحث عن الآخر يساوي نصف البحث عن النفس أم ضعفه؟ ولماذا تبحث عن آخر وأنت لا تستطيع إيجاد ذاتك؟ أسئلة كثيرة تطفو حين أتأمل صورة الشاعر السوري رياض صالح الحسين (أو رياض الصالح الحسين)، الذي التقطته عدسة يوتيوب. تختلف الروايات حول تفاصيل ميلاده، لكنها تتفق على سوريته. أجدني أسير في متاهة الشغف والجهل معاً، فأتعرف يومياً على أسماء أدباء وشعراء جدد، دون أن أعرفهم حق المعرفة. هل أبحث عن إبداعهم أم عن إبداعي؟ عن معاناتهم أم عن تعبي؟ أسئلة يثيرها عقلي المتشكك.

لكن الفكرة الأعمق هي أننا، في دوائر البحث هذه، قد نجد كل شيء متشابكاً. فكيف نفصل اللغة عن الفكر؟ وكيف نفصل الحرف عن الكلمة؟ هكذا تجد إجابات عن نفسك في حيوات الآخرين وإبداعاتهم.

تتسلل إلى نصي، كالعادة، أصداء الحياة اليومية: "اللي عايز مناديل كل اتنين بعشرة" في المترو، و"رايح مدينة الشيخ زايد الأتوبيس ده". ليست هذه كلماتي، ولا هي كلمات رياض الذي كان يخشى الفضول حول إعاقته السمعية والنطقية، حتى إنه كان يحتكر كرسيين في الأتوبيس لتجنب الأسئلة.


لغز متعمَّد؟

هل أراد رياض هذا الغموض المحيط به ليبقى حياًبعد الرحيل؟ ربما تكون نظرية مؤامرة. لكن الحقيقة أنه حاول بشدة إخفاء علاته، مفتخراً بشعره في بلد العمالقة مثل نزار قباني والماغوط. يقول عماد النجار (ابن أخته): "وكأن لم يكن له صديق حقيقي"، مما زاد من تحوله إلى أسطورة يكتنفها الغموض.


ربما كان الشعر هو محاولته للاكتمال، وكان الحب هو الوقود الذي يثبت به وجوده العادي، بعيداً عن النقص.


شذرات سيرة

من شذرات كاتب مقدمة ديوانه،منذر مصري: وُلد رياض في درعا (10 مارس 1954)، لأب من حلب وأم هي الزوجة الثانية. توقف تعليمه بعد ثلاثة أشهر من المرحلة الإعدادية بسبب مرض أفقده السمع والنطق تدريجياً. نشر أولى قصائده في مجلة "جيل الثورة"، ثم انتقل لقصيدة النثر عام 1977. عمل في دمشق بمكتب الدراسات الفلسطينية حتى وفاته.

أصدر ديوانه الأول"خراب الدورة الدموية" (1979)، ثم "أساطير يومية" (1980)، وبعدها "بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدس" قبل وفاته بقليل. نُشر ديوانه الأخير "وعل في الغابة" بعد رحيله. تعرض للاعتقال والتعذيب بسبب مشاركته في إصدار دورية شعرية.


نهاية درامية

مات رياض بسبب الحب،كما تروي الحكاية. فبعد شجار مع خطيبته، انزوى في بيته حتى عُثر عليه بعد أيام يعاني العطش الشديد، ونقل إلى المستشفى حيث توفي بعد ليلة من الغيبوبة.


شعر المرآة الصادقة

لم يحاول رياض تقليد أحد.كان شعره مرآة صادقة لنفس متعبة ووحيدة. كان قارئاً نَهماً، وكأنه عاش داخل الكتب، فامتلأت قصائده بإحالات أسطورية وحزن عميق. حزنه لم يكن فقط لأن أحداً لم يفهمه، بل أيضاً من وحدته ورغبته في الاكتمال بذات أخرى.

تظهر في شعره حوارات متخيلة مع امرأة تمدحه،بينما يتشبث هو بتظاهره بالقوة، لكنه يسقط في النهاية. رغم انعزاله، كان شديد الحساسية تجاه معاناة من حوله.


لغة القصيدة

لغته عفوية غير متكلفة،حادة وصارمة وحزينة في أغلب الأحيان. كتب قصيدته الشهيرة "أنا الرجل السيئ" في الثانية والعشرين، لكنها رسمت مصيره حتى رحيله في التاسعة والعشرين.

قبل أن أختتم،أذكر أنني لم أكن من محبي قصيدة النثر تقليدياً، لكن شعر رياض مختلف: متماسك، قوي، ومزدحم بإشارات عميقة، لكنه يظل نابضاً بالحياة والصدق.




قصيدة الرجل السئ للشاعر رياض الصالح الحسين 



"الموت!

فن، ككل شيء آخر

و أنِّي أتَّقنه تمامًا"

سيلفيا بلاث

و أذكر أنَّ المرأة الزرقاء عندما رأتني أبكي جثثًا و فقراء

قالت: عيناك مرآتان لخمسين قارَّة من الوجع

و الانتظار

و قالت المرأة التي ترتدي العاصفة و الوحوش:

أنت تعرف الكثير عن صبايا الأزقَّة المغلَّفات

بالأقفال البلاستيكيَّة الملوَّنة

و الأطفال الأغبياء المتمسِّكين بالأحصنة الخشبيَّة

و نهود الأمَّهات

و قالت المرأة بعد أن فتحت شاشتي عينيها:

(كان ثمَّة عاشق يرعى فيهما شجرًا و معتقلات)

يداك قاسيتان و وديعتان

و أصابعك نحيفة و معذَّبة

فهل لمست بهما الرغيف الثمين أو الشفاه الرماديَّة المرتعشة؟

هل قبضت على العالم؟

و قالت المرأة لي:

أنت تهذي كثيرًا بأسماء الأسماك و الأعشاب البحريَّة

و تفتح مملكة دماغك ليل نهار لقوافل الغجر التائهة

و تمزِّق بأظافرك لحم الأبواب و الجدران السميكة

فأيّ الأشياء أحبّ إليك:

أن تمضغ بشراسة رؤوس العصافير؟

أو أن تكسّر الصحون و الموائد المصنوعة

من خشب الجوز؟

و قالت لي أيضًا

و هي تنظر إلى الرأس

المشوّه المتوتّر في لوحة لسعد يكن:

أمك بجانبك تنحني عليك كيمامة

و أصدقاؤك يقبلون في المناسبات

و أنا أدفئك في ليالي تشرين الباردة

و أرسل إليك الأحلام الشاسعة و المكاتيب

فماذا تطلب غير ذلك؟!..

أتريد أن تفجّر النبع؟ أم تودّ أن تحرث المجرّة؟

و قالت المرأة القاسية:

أبتكر لك الدنيا..

خمسة جدران بيض

و سريرًا أبيض

و وردة بيضاء في كأس:

و كان يمكن أن أبتكر نعشًا

أنا الرجل السيء

لفاطمة العنيفة و نزيه الخائف و البحر التعيس

للأقفال الكريستالية السوداء.

للقرى الصاخبة بالعنب و الديوك و البطون المقعرة

للأغاني الممزقة في سلة المهملات

للمعاملات العقارية المبطنة بالأختام

لحبوب الأسربين و العشاق

لمصارعي الثيران الأذكياء في إسبانيا

للمجرفة الصلبة و الفلاح الرقيق

للدم الأخضر و مرتزقة الانقلابات

أنا الرجل السيء

كان عليّ أن أموت صغيرًا

قبل أن أعرف المناجم و الدروب

المرأة التي تغسل يديها بالعطور

و الملك الذي يزيّن رأسه بالجماجم

الولد الخبيث ذا اللثة الطرية الذي يقشر

الحليب من البكتيريا و الحروب من الانتصارات

أنا الرجل السيء

كان عليّ أن أموت صغيرًا

قبل أن أعرف الأشجار الارهابية و مافيا السلام

وفاة بائع المرطبات على سكة القطار

و الغجرية التي أهدتني تعويذة و قبلة

و كثيرًا من الأكاذيب

أنا الرجل السيء

كان عليّ أن أموت صغيرًا

قبل أن تفترسني الوردة،

و ينحت الفنان النظيف من عظامي القلائد

و الأقراط:

الفنان النظيف و الوردة النظيفة

يرسم الفنان النظيف الوردة النظيفة

في حجرة ممتلئة بزجاجات البيرة

و العرايا

لافتة الفنان النظيف

الفنان النظيف يحب الوردة

الحب للوردة و الوردة للسكاكين.

أيتها السكاكين المسكينة

أيها الجسد الإنساني القذر

أيتها الكلاب المعبأة بالمقانق و المحبة و عبير النعناع

أنا رياض الصالح الحسين

عمري اثنتان و عشرون برتقالة قاحلة

و مئات المجازر و الانقلابات

و للمرة الألف يداي مبادتان:

للمرة الألف يداي مبادتان

كشجرتي فرح في صحراء

الشمس الشمس

الشمس الناضجة

الشمس المدورة كنهد

المنتشرة كالطاعون في القرن التاسع عشر

المضيئة كعيني طفلة بقميص شفاف على البحر

الشمس الشمس

تمرّ بأسنانها على عنقي اليانع

و تقضم أيامي كما يقضم الطفل تفاحة أو قطعة بسكويت

فتنقفل يداي على صدري

يداي، كخطى الجنود، مبادتان

أسأل صديقتي

(صديقتي لحم و دم و خراب)

في الشارع أسأل صديقتي

(الشارع ضيق عندما نبكي

قليل عندما نشتاق)

أسأل صديقتي:

لماذا، للمرة الألف، نباد؟

منقطعان عن الحب

ممتلئان بالخنادق كامتلاء دمية بالقش

و بعد قليل يغطي الغبار جسدينا

بعد قليل نتشبث بغصن التعب.

متعبان اليوم

و ربما غدًا، أيضًا، نكون متعبين

فمي مباد و لذا لا أستطيع أن أسرقك

من البرد

في المقهى ننام

في الشارع نبكي

من الحقل مطرودان

من المدينة أيضًا

السيارة أداة للقتل

و غصن الزيتون مشرط لإقتلاع جلدة الرأس.


#نقاش_دوت_نت 

رياض الصالح الحسين، لغز متعمَّد، شذرات سيرة، نهاية درامية