تُمن شاى
لم تكن تلك الليلة مثل الليالي السابقة؛ الجميع نيام كعادتهم بعد صلاة العشاء، أنا فقط التي تمتلك عيونا ساهرة متطلعة لشروق يوم الأربعاء، ذلك اليوم الفارق في حياتي للأبد؛ فهو بالنسبه لى حياة أو موت.
قبل هذه الليلة بسنوات طوال، كنت تلك الفتاة الصغيرة صاحبة الإحدى عشرة عاما، سمعت أبى وهو يصرخ في أمي ويقول:
-البت فاض لها سبوع عالجواز، وسيباها تلعب مع العيال في الطين ياولية يا هاملة.
تأتي امي وتمسك بي، وتنهال باللكمات والضربات على جسدي الصغير:
-هتفضحينا يا للي تنفضحي، يقولوا إيه عليك؟ عيلة ولسه بتلعب في الطين!
لم أفهم ماذا تقصد بهذه الفضيحة التي تحدث عندما ألعب في الطين، سنوات طوال وأنا ألعب في ذلك الطين ولم يعترض أحد، جاءت الماشطة و أخذت تتفحص جسدي وتتحسس صدري وأنا كالصنم لا أتحرك لأجدها تضحك وتنظر لأمي:
-والنبي البت دي باجسة، شوفي يا أختي مش هممها إزاي؟
لتضحك أمي:
-صغيرة مش فاهمة.
-يا أختى كلنا كنا صغيرين وكنا بنستحي، البت صدرها زي الليمون الأخضر، بس متقلقيش حشوة القطن هتظبط كل حاجة.
صدري مثل حبات الليمون الأخضر هكذا قالت الماشطة، والحل فى حشوة القطن؛ حتي أبدو كالنساء في زي العُرس.
سألت أمى:
-ياعنى ايه جواز يا أمَّا؟
لتضحك وهي تحاول أن تداري بعض الخجل وتنظر للماشطة التي ترد عنها:
-عارفة الحلاوة البيضا اللى بتجبها لك أمك من سوق الأربع؟
-أيوة عارفاها.. دي حلوة جوي.
-الجواز بيخلى عندك الحلاوة دي علطول.
-علطول.. صحيح يا أمَّا؟
لترد أمي وهي تتغامز وتضحك مع الماشطة:
-صحيح يابت.
كنت سعيدة بالفستان، والألوان على وجهي، وكل هذه البهرجة والزينة والحلاوة البيضاء التى لن تنقطع أبدا، لتختفى تلك السعادة فجأة عندما ضغطت أمي على وركي النحيل، وكأنها تترك لي علامة تذكرني أن أكون صالحة ولا أصرخ عندما يدخل العريس بي.
أصرخ!! لماذا؟ ماذا سيحدث لي كي أصرخ؟ سيطر الرعب والقلق على نفسي، وتذكرت أفراح البنات السابقين في القرية وهذا المنديل الأبيض المختلط بالدماء الذي تخرج به الداية من حجرة العريس؛ لتٌضرب طلقات النار في الهواء ويهلل الجميع ويتبادلون التهاني والمباركات. ماذا سيحدث لي؟ ومن أين تاتي هذه الدماء؟
مر اليوم ومرت سنوات كثيرة على زواجي؛ الزواج هذه العلاقة الغريبة التي لا أفهمها وهؤلاء الصغار الذين أعطوني لقب أم! أنا أم! أنا التي ما زالت تحن لطفولتها البريئة، وتشتاق إليها عندما ترى هؤلاء الصغار في لعبة الغميضة يتضاحكون بسعادةٍ صافيةٍ لا يشوبها فكر أو هم.
كثيرا ما تمنيت أن يعود الزمن لألعب معهم وأبتسم مثلهم، ولكن كيف وانا أحمل هذا اللقب.. أم؟! لكن طبيعتي العنيدة لم تجعل الأمر يتوقف عند التمنى؛ ففي لحظات من الجنون كنت أذهب في غفلة من الجميع الي خلف الدار، وأصنع هذه العرائس الطينة الجميلة وأنغمس معهم في حواديت وحكايات، وأصنع لهم حياة أكثر سعادة من حياتي، حياتى الغريبة التى تسير بمفردها وكأنها لا تخصني في شيء، و عندما أنتهي من اللعب أخبئهم في إحدى أكوام التبن أو في طاولة إحدي الحيوانات.
كانت كل الأيام متشابة. إلا يوم الأربعاء العظيم، يوم السوق الأسبوعي الكبير، هذا السوق الذي كانت تحتكر الذهاب اليه كبيرة الدار والمتصرفة الأولى في كل الأمور، صاحبة الكلمة التى لا تُرد، حماتي، هذه السيدة القوية الحازمة التى تستطيع ان تٌسكت جَمع كبير من الرجال بكلمة واحدة منها.
سيدة قوية تدير الدار بكل حزم؛ تنظم كل شئ, لها عشرة من الأبناء الرجال ولكل منهم زوجة وأولاد, والجميع في طاعتها وتحت تصرفها.
كانت تعرف كل صغيرة وكبيرة في الدار، حتى دبة النملة كانت تعرفها، ولا تنسى أبدا، تغلق كل شئ وتحتفظ بالمفاتيح في خيط غليظ حول رقبتها، تعد الملاعق بعد كل غسلة للأواني، وتعد قطع اللحم وتربطهم بخيط واحد قبل وضعهم في قِدر السواء على الكانون، تعرف ما يدور من أسرار داخل حجرات النوم وكأنها كانت معنا، ويُحكي عنها أيضا إنها قتلت ذئبا و أخرجت كبده وأكلتها نيئة.
لا أخفيكم أني أنظر إليها بكل إعجاب، و أتمني أن أكون مثلها يوما ما بالرغم من ضيقي الشديد من تزمتها الدائم، لكن قوتها وسيطرتها تروق لي؛ فأحفظ كل تصرف وكل كلمة تقوم بها، وأفرح مثل الصغار عندما تعود من السوق محملة باحتياجات الدار ومعها الحلوة البيضاء الناعمة التي يحبها الجميع.
يوما ما قالت لي:
-خدي يا بت، تعالي هنا.
انت مالك كده باصه لي وهتاكليني بعينك الوسعة البجحة دي؟!
لأرد عليها في بعض الخوف:
-لا والله يا أمة ده أنا بحبك وبتعلم منك.
لتنطلق منها ضحكة لا تتكرر إلا نادرا وتقول:
-عارفة أنت بت جادعة، ومرات الكبير يعني إنت الكبيرة بعدي، بس خلي بالك طول ما أنا عايشة مفيش حد يقدر يتنفس قدامي، وخصوصي لما تبقى وحدة عبيطة زيك لسه بتلعب بالعرايس -تنظر لي أكثر وتبتسم- ولا تكونيش فكراني غايبة يا بت!
تنحشر الكلمات في حلقي، ولكنها تكمل كلماتها وتسرب فيها بعض الحنيه:
-ابقي خبيهم كويس يا موكوسه، واوعي العيال تشوفك ليقولوا عليك هبله.
لأنكب علي يدها أقبلها وأجلس تحت قدمها ادلكها وأؤكد محبتي لها، وإنها في مقام أمي الغالية.
أخذت أنظر اليها و أتمني أن أصبح مثلها؛ حتي أتحكم في حياتي بمفردي، وأكون صاحبة قرار قوي لا يرده أحد.
حتي جاء ذلك اليوم الذي لم أكون أتصور إنه سيأتي أبداً؛ يوم رقدت مريضة في سريرها لا حول لها ولا قوة، يومها طلبتنى وقالت:
-اسمعي يا بت، أنت اللي هتروحي سوق الأربع وتتسوقي للدار كلتها بدالي، وإياك تنسي حاجة ولا تضيعي حاجهة، ولو حصل، عمرك في حياتك ما هتشمي ريحه السوق تانى.
لتنتابني حالة من الفرح المقترن بالخوف الذي يصل لحد الرعب؛ السوق، إنه علامة القوة والسيطرة وبداية للحصول علي لقب كبيرة الدار. هنا دارت الأسئلة كلها في رأسي، وبدأت تتزاحم، حتي أني لم أعد أفهمها، لكن السؤال المُلح والوحيد الواضح كان، هل أنا حقا أستطيع؟
أشرقت شمس الأربعاء وإرتديت الملس الأسود الخاص بحماتي، الملس الوحيد المخاط به سيالة، هذا الجيب السحري الذي نحتفظ فيه بالمال؛ حتي لا نتعرض للسرقة، و أكملت الزي بالطرحة السوداء الطويلة التي تغطي كامل رأسي، والحذاء البلاستيكي الأسود الأمع الذي ننتعله في المناسبات الهامة فقط. حملت القُفه في أحضاني و انتظرت، لحظات ثقيلة تمر وكأنها سنوات طوال حتي سمعت ذلك الصوت:
-عربيه السوق وصلت
لأنتفض وأخرج مسرعة و أجلس علي العربية الكارو، وبجانبي هؤلاء السيدات العظيمات وكلُ منهن تسأل عن صحة حماتي الغالية وتتمني لها الشفاء، ثم يتضاحكن ويتغامزن؛ لأن مرضها فرصه ذهبية لي لأصبح سيده الدار.
تنطلق العربة، وطول الطريق لم أنطق بكلمة، ولكن عقلي يراجع كل طلبات الدار مرات ومرات حتي لا أنسى شيئا. و من حين لآخر أطمئن نفسي وأقول بلا صوت:
-الفلوس في السيالة، والبضاعة في السوق، وأنا فاكرة كل حاجة بالتنتوفة، كله ساهل ان شاء الله.
الي أن وصلنا السوق هذا المكان الكبير الذي يصل لحد الضخامة، تزاحم شديد وتخبط، بضائع كثيرة و متنوعة، أصوات عالية متداخلة، كل ذلك جعلني أرتجف للحظة، وأشعر بغمة نفس ودوران الأرض من تحتي، لأعود الي ثباتي بعض الشيء عندما أسمع صوت سائق العربة وهو يقول:
-هرجع لكم هنا بعد ساعتين، وحياة النبي محمد محد يتاخر مش نقصين عطله.
لتنطلق السيدات وأنا معهم ومازلت أردد:
-الفلوس في السيالة، والبضاعة في السوق، وأنا فاكرة كل حاجة، أيوة فاكرة كل جاجة.
وتبدأ الرحلة وأشتري الحاجيات بكل سهولة، وأكتشف أني أستطيع، وأن التسوق أمر سهل وممتع جدا.
اشتريت كل شئ حتي الحلاوة البيضاء الناعمة التي ينتظرها الصغار، وأنا انتظرها اكثر منهم، لكن لماذا أنتظر وهي في يدي؟! فأنا كبيرة الدار ويمكن أن أتذوق الحلوى الآن. جلست علي جانب الطريق؛ لأتذوق بعضا منها وأراجع كل شئ من البداية، وأتاكد أن كله تمام، ولكن اكتشفت المصيبة التي أنستنيها لهفة تذوق الحلوى.
وقت الرجوع للعربة اقترب، وأنا قمت بشراء كل الأشياء إلا تُمن الشاى ولم يتبق معي نقودا، حماتي أعطت لي النقود كاملة، أين ذهب ثمن تُمن الشاي؟ كيف أعود من غيره؟ ماذا أقول؟ هل النقود ضاعت؟ كيف أفشل؟ كيف يبدد تُمن شاي كل أحلامي؟
أخذت أبكي وأتحاشي أن يري أحدهم دموعي، ويعلم مصيبتي ويخبر الجميع، غامت الدنيا مرة أخري في عيني، وبدأت الدنيا تدور حولي في دوائر تسحبني لقاع الارض، تمنيت أن يتوقف الزمن أو تقوم القيامة لأنتهي من هذه الورطة، لينقشع السواد فجأة ويتجدد الأمل عندم رأيته يلمع في ضوء الشمس؛ فإتسعت عيناي وأنا أنظر لهذا الخلخال الفضي الذي يزين ساقي؛ إنه الحل بلا منازع؛ الحل الذي سيحمي لي أحلامي ومستقبلي القادم. وفي غفلة من الجميع وضعت قدمي خلف قفة البضائع وخلعت فردة الخلخال اليمنى،ج وذهبت لبائع الشاي، وقلت له:
-فرده الخلخال دي فضة، هرهنها عندك للسوق الجاي وهاخد تُمن شاي ناعم.
يبتسم بخبث:
-اول مرة ليك في السوق مش كده؟
- إيوة أول مرة.
_إنت من دار مين؟
_و إنت مالك إنت، دار مين ولا مش دار مين، هتخدها وتدهولي ولا لا؟
ليبتسم الرجل ويوافق وكأن الأمر ليس بجديد عليه ويضع في يدي تُمن الشاي؛ فأتنفس و أنصرف من أمامه مهرولة الي العربة التي كادت أن تتحرك بدوني، لتنظر لي إحدي النساء في لؤم:
_كان هيمشي ويسيبك، مكنش مستحمل روحه.
لارد عليها و أنا أستوي في جلستي:
_يمشي! مشيت عليه باطنه، هو يستجري! طب والنبي كنت سودت عيشته.
ليعتذر السائق:
_والنبي ما قلت حاجة يا ست، وعموما حقك علي راسي يا ست الكل.
لتنطلق العربة و لدي هذا الشعور الغريب، هذا الخليط بين العزة والفخر والقوة؛ لقد اتخذت قراري بمفردي، تخلصت من من قلقي، لقد كبرت، نعم كبرت.
تصل العربة الي البلدة ليستقبلنا الصغار بهتاف وفرح لانتظارهم الحلوى البيضاء الناعمة التي نحملها لهم
-عربيه السوق رجعت، الحلاوة جت من السوق يا عيال
أنزل أمام داري وأسمع إحدي النساء تقول لي:
-هنستناكِ السوق الجاي بقى.
لأرد عليها بكل ثقة:
-أمال إيه، إن شاء الله.
أدخل الدار وأهرول الي حماتي؛ لأعلن لها انتصاري وفوزي في المعركه، لأجدها تتفحصني وتقول بصوت صحيح بعيد عن رنة المرض:
-حلو السوق مش كده؟
-حلو قوي يا أما.
-قربي هنا يا ست الدار، إرفعي رجلك يا بيت.
-رجلي.. ليه يا أما؟
-ارفعي يا بت متوجعيش جلبي
فأرفع رجلي اليسرى لتنظر إليها وتقول:
-اليمين.
أبتلع ريقي الذي تحجر وأرفع رجلي لأجدها تتحسس مكان فردة الخلخال.
-نزليها يا عدلة.
ثم تتنفس و تبتسم وتقول:
-عارفة يابت أنت لو كنت رجعت بحاجة ناقصة من السوق ومتصرفتيش، كنت خليته طلقك وجوزته ست ستك اللي تعرف تتصرف.
ليتهلل وجهي وأبتسم وأجلس تحت قدميها وأقول:
-طب دلوقتي بقى؟
-دلوقتي، طلعتي جادعة، ومن اليوم ورايح إنت بس اللي هتروحي السوق، ومتنسيش ترجعي خلخالك يا فالحة.
لأبتسم أكثر وأشعر بالانتصار والقوة لأول مرة في عمري،
تعتدل حماتي ويعود صوتها للخنوع:
-هاتي حتة حلاوة يابت ريقي مر.
-حاضر يا أما.
من المجموعة القصصية
تُمن شاي
رانية المهدي
المجموعة متوفرة على أبجد
#نقاش_دوت_نت
الطين ، الماشطة ، العروسة, حشوة القطن، الحلاوة البيضا
