الاقتصاد الإسلامي نشأ في المدينة المنورة
كل شيء هنالك يُكسى سكينة الجوار، فالنور ممتد كأنه مهاد رحمة! والظل في وداعة طفلٍ آب إلى عيني أمه بعد سفر في الدنيا طويل! والأحجار ابتهالٌ خاشعٌ في الأسحار! هنالك حيث خلعت يثرب ثوب التثريب وطاب فيها كل شيء بمقدم سيد الأولين والآخرين ﷺ ! هذا أثره في الجمادات فكيف في القلوب والأرواح؟!
مفهوم النظام الاقتصادي الإسلامي المتفرد
تقوم فكرة النظام الاقتصادي الإسلامي على أن الملك كله والمال كله لله سبحانه وتعالى، وليس للإنسان من الاستخلاف في هذا المال إلا ما يجنيه -بعمله وسعيه- من صالح الأعمال المادية والمعنوية الدنيوية والأخروية. ويقع على عاتقه رعاية الفقراء والمحتاجين لكونه مجرد وكيل لله في هذا الملك وهذا المال.
التكافل الاقتصادي والاجتماعي
أحد أبرز خصائص النظام الاقتصادي الإسلامي في عصر النبي ﷺ، التكافل الاقتصادي والاجتماعي. قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].
نرى ذلك في تركيز النبي ﷺ -في بداية هجرته إلى المدينة- على أهمية توزيع الدخل والثروة من خلال الإخاء ومشاركة الأملاك والأموال بين الأنصار والمهاجرين.
وبدأ النبي ﷺ عند تأسيس الدولة الإسلامية وإرساء أركانها بالإخاء بين الأنصار والمهاجرين ليضع بذلك اللبنة الأولى للتكافل الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع المدينة الناشئ، ثم بتحقيق العدالة الإسلامية في المجتمع المدني، تخلص المسلمون من نزعة الاحتقار أو الازدراء، وضموا أبناء البلاد الوافدين إليهم فشاركوهم في أموالهم وثرواتهم، بينما قدم الوافدون الجدد بالمقابل خبراتهم وإخلاصهم وتفانيهم.
وبفرض الزكاة والصدقات وكفالة الأيتام في المجتمع الإسلامي أضحى التكافل الاقتصادي والاجتماعي سمة بارزة في المدينة.
ومما يجدر الإشارة إليه أن يثرب كانت مدينة صغيرة يعمل أهلها في الزراعة؛ بينما يهيمن على سوقها التجارية اليهود. وحين وصل المهاجرون وكانت أعدادهم كبيرة، لم يحملوا معهم رؤوس أموال تصلح لمنافسة اليهود، لكن هذه المؤاخاة التي ابتدأ بها النبي ﷺ صنعت أواصر أقوى وأمتن من أخوة النسب كانت منافعها كثيرة.
وآثر الأنصار المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فسارعوا لتقسيم أملاكهم معهم، فما كان من المهاجرين إلا الإكرام والإحسان.
وشملت المؤاخاة تسعين رجلًا، خمسة وأربعين من المهاجرين وخمسة وأربعين من الأنصار، ويقال: إنه لم يبقَ مهاجري إلا وقد آخى النبي ﷺ بينه وبين أنصاري.
وكفل الأنصار المهاجرين وأدخلوهم حتى في سلسلة التوارث، فكان إذا مات الأنصاري يرثه المهاجر، وإذا مات المهاجر يرثه الأنصاري، بالتآخي، واستمر هذا فترة من الزمن حتى نسخ ذلك بقول الله تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) [الأنفال: 75].
ومن النماذج الباهرة التي تستوجب الذكر في هذا المقام؛ المؤاخاة بين عبد الرحمن بن عوف المهاجر وسعد بن الربيع الأنصاري، حيث بلغ الإيثار بسعد بن الربيع أن قال لعبد الرحمن بن عوف: “إني أكثر الأنصار مالًا فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك، فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها، فتزوجها” وذلك قبل فرض الحجاب.
فماذا كان من عبد الرحمن بن عوف أمام هذا العرض المغري السخي، لقد كان الرد تاريخيًا عفيفًا فقال رضي الله عنه: “بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فما رجع حتى استفضل أقطًا وسمنًا”.
وقدّم المهاجر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه درسًا للأجيال في كيف يكسب الرجل قوته في الديار البعيدة، وكان يحسن التجارة، فباع واشترى، ورجع بفائض من سمن وأقط. وتزوج عبد الرحمن، وكان المهر نواة من ذهب أصدقها لزوجته، ونمت ثروته بعد ذلك ليصبح من كبار أغنياء المسلمين.
وهذه صورة من أرقى الصور لطبيعة العلاقة الاقتصادية والاجتماعية بين المهاجرين والأنصار آنذاك. لقد كان هذا الإخاء أحد أعمدة الحضارة الإسلامية الرائعة.
ولا تنفك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تحثّ على الأعمال الخيرية والتطوعية والإحسان وكفالة الأيتام وتفريج الكربات والمسابقة بالخيرات، ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى.
وبهذا الرُقي، قام اقتصاد الدولة الإسلامية الأولى.
#نقاش_دوت_نت
الدخل , الثروة ، مشاركة الأملاك، الدولة الإسلامية، المهاجرين، الأنصار، التكافل الاقتصادي والاجتماعي
