الفصل الثانى (2 " : "الدكتور يوسف فى طريقه إلى العيادة"
أطلق راضى العامل هذه العبارة ليطمئن المرضى المنتظرين بالعيادة المشتركة بين يوسف ومختار ثم عاد إلى مراجعة سجل أمامه
تقع هذه العيادة فى نفس العقار الذى يقيم فيه يوسف ومختار، تتكون من حجرتين وصالة استقبال يفصلها حاجزلا يصل إلى نهاية الحائط مزخرف، يفصل بين مرضى يوسـف ومرضى مختار
وبنظرة يسيرة يدرك المرء كثرة المرضى المترددين على يوسف فى حين يدرك ضآلة عدد المترددين على مختار لأن الطب النفسى لا يؤمن به إلا فئة قليلة من المثقفين أما أنصاف المتعلمين فلا يهتمون به كثيرًا، وربما اعتبروه رفاهية مبالغ فيها والبسطاء يحل الدجال لديهم محل الطبيب النفسى لذا فنوعية المترددين على مختار فئة واحدة تدركها من مظهرهم الثرى
والمرضى المترددون على يوسف من طبقات مختلفة فمنهم الأثرياء ومنهم الطبقة المتوسطة ومنهم الفقراء، وهؤلاء يرد إليهم يوسف قيمة الكشف فى الخفاء حتى لا يجرح مشاعرهم والأثرياء داخل العيادة يثير وجود هؤلاء البسطاء ذوى الملابس الرثة ضيقهم ولكنهم يتحملون وجودهم لمهارة يوسف الذى لا يباريه طبيب فى تخصصه
بعد قليل دخل يوسف حاملًا حقيبته الطبية محييًا:
ــ مساء الخير
"مساء النور يا دكتور" بانتباه شـديد أجاب راضى وأسرع ليأخذ الحقيبة ثم دخل راضى حجرة الكشف ووضع الحقيبة على المكتب بينما خلع يوسف سترته وعلقها خلفه على المقعد وجلس متسائلًا: "كيف حالك يا عم راضى؟"
ــ الحمد لله على كل شئ
ــ العيادة مزدحمة الليلة!
ــ ماشاء الله يا دكتور
يتنهد يوسف فيلمح راضى علامات الإجهاد على وجهه فيقول:
ــ تبدو مجهدًا يا دكتور
ــ نعم؛ أجريت أكثر من عملية اليوم بالمستشفى
ــ هل تريد أن أعتذر إلى المرضى المتأخرين؟
ــ لا سأكون على ما يرام أدخل المريض الأول وأعد لى فنجانًا من القهوة باللبن
ــ تحت أمرك
ينصرف راضى فيضع يوسف يديه على عينيه مسترخيًا فيسـمع طرقًا على الباب فيجيب ومازالت يداه على عينيه: "ادخل"
تدخل سـيدة جميلة أنيقة ذات عطر قوى يوقظ يوسف من استرخائه فيبعد كفيه عـن عينيه فيراها وهى تتهادى حتى تقترب منه، يتملكه الغضب الشديد فيحاول السيطرة على غضبه فيشير إلى مقعد أمامه فتجلس السيدة وهى تنظر بجرأة إلى عينيه ثم تعقب:
ــ أشكرك أنت رقيق جدًا
ــ خيرًا ما الذى يؤلمك؟
ــ أشعر بوخزة فى قلبى وتتسارع دقاته بشدة فأشعر أنى سألفظ أنفاسى الأخيرة
ــ متى تشعرين بذلك؟
ــ لا أفهمك يا دكتور
ثم تعض على شفتيها فيشيح بوجهه بعيدًا
ــ هل يحدث ذلك عند سماعك خبر مفرح أو محزن؟ هـل عند استيقاظك أو عند نومك؟
ــ فهمت يحدث صباحًا ومساءً
ــ أرجو أن توضحى أكثر
تتصنع الخجل وتحنى رأسها ثم ترفعها:
ــ عند خروجك من المنزل صباحًا وعند عودتك إليه مساءً
ــ ماذا؟ ماذا تقولين؟!
ــ أنتَ سبب مرضى يا دكتور يوسف وستكون سـببًا فى موتى؛ أنا أقيم بالعقار المجاور لكَ
يقاطعها طرق راضى على الباب ثم دخوله حاملًا صينية عليها فنجان القهوة باللبن يضعه أمام يوسف، فيشكره ثم يَهِمّ بالانصراف فيستوقفه يوسف قائلًا:
"من فضلك أعد إلى السيدة قيمة الكشف واصطحبها إلى الخارج" .
ترتسـم أمارات الدهشة والغضب على وجه السيدة التى تنهض وتواجهه:
ــ كيف تجرؤ على فعل ذلك معى؟!
ــ لا علاج لكِ لدىَّ وإياكِ أن تأتى هنا ثانية حتى وإن كنت تلفظين أنفاسك الأخيرة حقًا لا زيفًا
ــ أنت طبيب فاشل
ــ احترمى ذاتك وإلا ستغادرين العيادة بصورة تجبرك على مغادرة المعادى بأسرها
تلوى وجهها بغضب وتنصرف وتدفع الباب خلفها بحدة0 يلتفت يوسف إلى راضى:
ــ لا أريد أن أرى أحدًا
ــ أمرك يا دكتور يوسف هل تريد ان أصرف المرضى؟
ــ لا ولكن لاتُدخل أحدًا حتى تسمع صوت الجرس
ــ كما تريد يا دكتور
ينصرف راضى ويغلق الباب خلفه بينما يضرب يوسف المكتب بقبضة يده:
ــ أنا بالفعل طبيب فاشل فى علاج العاهرات هذا الجنس الذى لا يشغله فى الحياة سوى شهواته الحيوانية، ماهذا اليوم الأسود؟! إهمال بالصباح وعهر بالمساء فليرحمنى الله
يسمع يوسف طرقًا على باب الحجرة فيغضب ويجيب صارخًا:
ــ قلت لكَ لا تدخل أحدًا حتى تسمع صوت الجرس
يفتح نبيل صديق يوسف الباب حاملًا حقيبة فى يده فيهدأ يوسف حين يراه ولكن لا تختفى ملامح الغضب رغم تصنعه الهدوء وافتعال ابتسامة كاذبة فيقترب نبيل مبتسمًا ومتسائلًا:
ــ ماذا حدث يا (جو)؟!
(جو) هو اسم التدليل الذى يناديه به نبيل معظم الوقت
أجاب يوسف بغضب: "مريضة مستفزة بل تدعى المرض"
ــ ولماذا تدعى المرض؟! هل تشفق على حالك المسكين وأرادت المساعدة؟!
ــ لا إنها عاهرة حقيرة حلقة فى سلسلة جنس تتملكه الأنانية
ــ عليكَ أن تعلم أن النساء والرجال سواء فى الصلاح والفساد
ــ للمرة الثانية اليوم أسمع هذا الدفاع، يؤلمنى أن يدافع رجل عـن امرأه
ــ المرأة بهجة الحياة مهما بدا بعضهن مزعجًا
ــ ولماذا ترفض أن تدخل البهجة حياتك؟!
ــ لقد أحببت امرأة واحدة وحالت الظروف بينى وبينها ولم أستطع نسيانها أما أنت
يقاطعه يوسف: "أرجوك لقد سئمت هذا الحديث الذى لا فائدة منه"
ــ أنت محق لقد استنفذنا أنا وعمى كل أساليب الإقناع فلندع الأمر إلى الأيام لنتحدث فيما هو مفيد0 لقد أحضرت لك كمية من الأدوية للمرضى المحتاجين
فتح نبيل الحقيبة لِيُطلِعَ يوسف على الأدوية وفجأة سمع الاثنان ضجيجًا عاليًا من الخارج فنهض يوسف وخرج إلى صالة استقبال المرضى، وخلفه نبيل فشاهدا رجلًا ذا ملابس فاخرة متجاوزًا الخمسين من عمره يواجه راضى بغضب شديد:
ــ هذا أمر لايليق كيف يدخل هؤلاء إلى العيادة؟!
ظهر الدكتور مختار خارجًا من حجرته يستكشف ما يحدث
اقترب يوسف من الرجل الغاضب متسائلًا بدهشة:
ــ ماذا حدث ؟!
ــ هل أنت الدكتور يوسف؟
ــ نعم أنا لماذا تصرخ هكذا؟!
يشير الرجل الغاضب إلى مريض ملابسه رثة يفوح منها رائحة عفنة وحذاؤه ممزق مرتديًا عمامة فوق رأسه: "هل يليق بعيادة فاخرة بحى المعادى أن يدخلها هؤلاء؟!"
يتحرج المريض الفقير فـيَهِمُّ بالنهوض فيمنعه يوسف:
ــ كما أنت يا والدى وأرجو أن تقبل اعتذارى نيابة عن الأستاذ
تكسو الدهشة وجه الرجل الغاضب:
ــ ماذا تقول؟! أنا اعتذر إلى هذا ألا تعرف من أنا؟
ــ لا يعنينى ولكن يهمنى أن تعرف أن هـذه العيادة لها قواعد، وأولها أن يحترم كل مريض ذاته ولا يرفع صوته ولا يتدخل فيما لا يعنيه أتفهم؟
ثم يلتفت يوسف إلى راضى آمرًا:
ــ أعد إليه قيمة الكشف وإلى كل من لايعجبه مرضانا
يبدو الحرج والدهشة على وجه الرجل الغاضب فيرمقه يوسـف بنظرة غضب شديدة بينما يبدو نبيل متحفزًا إلى الفتك به، فيمسك يوسف ذراعه وينصرفان إلى حجرة الكشف ويجلس يوسف ويظل نبيل واقفًا فيتساءل يوسف: "لماذا لا تجلس يا نبيل؟!"
ــ أكاد أنفجر من الغضب لقد مزق قلبى إحراج الرجل المسكين، ودموعه الحبيسة لماذا لم تتركنى أسدد إلى هذا المتغطرس لكمة فى أنفه الشامخ لملابسه الفاخرة التى تخفى نفسًا وضيعة
ــ لقد أذقته ما يكفى لتبتل ملابسه الأنيقة التى يتباهى بها ويخفض أنفه الشامخ
ــ إن أمثاله كثيرون؛ للأسف لم تغير الثورة شيئًا
ــ التغييرلا يأتى بقرار جمهورى وإنما يحتاج إلى تغيير ثقافة المجتمع التى جُبلت على الطبقية والتعالى على الآخرين كل مرض يأخذ وقته للاستئصال ويحتاج إلى نقاهة ليُشفَى صاحبه تمامًا.
ــ ومن المسئول عن استئصال المرض؟
ــ الإذاعة والسينما والرئيس الذى لا يألو جهدًا فى تطبيق ثقافة المساواة على نفسه وأسرته أنا وأنت وأمثالنا ينبغى أن نكون حلقة الوصل بين الطبقتين المتصارعتين لتقليل الهوة بينهما، فلا تركز نظرك على هذا المتغطرس؛ ليس البشر سواء .
يرمقه نبيل بدهشة رافعًا حاجبيه: " أتبدل قناعاتك بهذه السرعة وماذا عن النساء؟"
يمسك يوسف بفنجان القهوة باللبن غاضبًا: "هل أقذفك بالفنجان حتى ارتاح منك؟"
ــ سأتلقفه بفمى لأستمتع به
يبتسم يوسف ونبيل
!!!!!!
#نقاش_دوت_نت
