الساعة الخامسة بتوقيت جمالات
عذراً للساعة الرملية والساعة الشمسية وخليفتهما الميكانيكية. ومزيد من الأعذار لتوقيت جرينتش
فأنا أتبع توقيت جمالات ..أسمعك يا من تقول من هي جمالات..إنها زوجتي ذات الميقات العبقري
للتو عدت من الخارج وناديتها وكنت في عجلة من أمري
جمالات ! أين أنتِ ؟ أتت كسلحفاة برية تصارع الرمال, قالت بنبرة أقرب إلى التثاؤب. مرحبا
فرددت مكاتماً غيظي الذي كاد أن ينفجر. جمالات أرجوكِ انتبهي. فاليوم غير عادي. أريد كل شيء على عجل
فردت بذهول! وما غير العادي في هذا اليوم ؟
أنسيتِ أنني مكلف من الشركة التي أعمل بها بالسفر إلى هولاندا لإنهاء بعض الصفقات!
ممم أجل نسيت, أعتذر
لا عليكِ. فقط كل ما أحتاج الآن هو تناول الغداء وبعدها سأنام بضع سويعات على أن توقظيني في تمام الساعة الخامسة
حكت رأسها وقالت. هل ستقلع الطائرة في الساعة الخامسة؟
إلى أي درب من دروب الجنون ستقودني هذه المرأة ! ...جمالات. زوجتي الحبيبة, كيف سأستيقظ في موعد إقلاع الطائرة! موعد الإقلاع في تمام التاسعة. لذا فعلي أن أكون في المطار في تمام السادسة
اتسعت حدقتاها ذهولاً وقالت. يا إلهي! ثلاث ساعات تمكثها في المطار دون جدوى!
ومن قال يا عبقرية زمانك أنها دون جدوى! إجراءات السفر تستغرق ساعات طويلة. لذا وجب التواجد قبل الموعد بثلاث ساعات
أوه! ياله من أمر ممل! ثلاث ساعات لإتمام الإجراءات!
جمالات! أرجوكِ كفي عن الثرثرة فيم لا تجيدين, وأدركيني بالطعام الشهي الذي تجيدين, سريعاً أرجوكِ,سريعاً
استدارت كأنثى الفيل, ومشت بتثاقل يثير الأعصاب. فما كان مني إلا أن زفرت منفثاً عن بعض حنقي, وجلست إلى المائدة في انتظار الطعام...مضت خمس دقائق...عشر...خمسة عشر.فثارت ثائرتي وصحت بأعلى طبقات صوتي.
جمالات
ردت بذات الصوت التثاؤبي المقيت: قادمة
مرت خمسة عشر دقيقة أخرى وأنا أحبس أنفاس غضبي الذي كاد أن يصرعني, أخيراً أتت تحمل صينية الطعام وهي تمشي الهوينى وعلى وجهها ابتسامة بلهاء تنم عن أعصاب باردة حد التجمد, وقالت بهدوء: ها هو الطعام, لا داع لثورتك
رشقتها بنظرة اغتياظ وزفرت دونما رد على عبارتها المستفزة, وما أن همت بالاستدارة مستقبلة المطبخ, حتى قلت لها:
إبعثي ببذلتي السوداء وقميصها الأبيض ورابطة العنق التي تجمع بين اللونين إلى المكوجي, واخبريه أن يحضرها بعد نصف ساعة على الأكثر
رفعت حاجبيها في دهشة وسألت بغباء:
ولِمَ العجلة! الساعة الآن الثانية ظهراً, وأنت تحتاجها في السادسة
زفرت وقلت مصراً على أسناني: هل يمكنك فعل ما أطلب دون مجادلة!
هزت رأسها بتثاقل وكأنها تخشى سقوطها من فوق رقبتها. استدارت متجهة إلى المطبخ في هدوء قاتل, والتهمت أنا طعامي على عجل.. وقبل أن أنام ناديتها: جمالات, جمالات.أجابت كالمعتاد, قادمة. وحين أسعدني الزمان بمجيئها, قلت لها:
أيقظيني في تمام الخامسة يا جمالات. إياكِ أن تنسي وإلا ستكون الطامة الكبرى, وربما تم رفتي من الشركة
ابتسمت السلحفاة ببراءة الأطفال وقالت بحزم:
سأفعل. لا تهتم للأمر, إذهب للنوم
ذهبت للنوم بعد أن كررت التحذير على جمالات, وأكدت أنها ستوقظني في تمام الساعة الخامسة, وذهبت لمهاتفة صديقتها الصدوقة وتوأم روحها الملتصق حد العته السيدة سعاد, لا ضير, ولا أهتم بتوافه الأشياء. ما يعنيني هو أن أنعم بسويعات الراحة قبل وعثاء السفر. كانت الساعة الثالثة إلا الربع, استلقيت على فراشي منهكاً واستسلمت لنوم عميق. أفقت على صوت جمالات توقظني
هيا استيقظ لتستعد للسفر
تثاءبت ومددت ذراعيّ, وسألتها: كم الساعة؟
إنها السادسة والنصف
انتفضت من الفراش كمن صعق بتيار كهربائي وصرخت في وجهها:
ألم أخبرك أن توقظيني في تمام الخامسة؟
ردت بأعصاب مثلجة: بلى. ولكن لِمَ العجلة وما زال لدينا وفرة من الوقت, والعجلة من الشيطان أعاذنا الله منه
زفرت غيظاً ودفعتها عن طريقي, وأسرعت إلى الهاتف, وقبل أن أضغط على زر الاتصال, أمرتها غاضباً:
احضري البذلة ورابطة العنق
فردت ببلاهة: وكيف أحضرها وهي ما زالت عند المكوجي!
ضربت رأسي بيدي قهراً وصرخت:
أعطني رقم هاتفه
هاتفت المكوجي وطلبت بأعصاب ثائرة إحضار البذلة, فرد بأعصاب تصل درجة تجمدها إلى عشرة تحت الصفر
ستكون جاهزة بعد نصف ساعة يا سيدي
زأرت كأسد يريد الفتك بفريسته: أريد بذلتي الآن, أوشك موعد طائرتي, أتدرك ما أقول يا رجل الثلج!
أغلقت الهاتف في وجهه وهاتفت سائق التاكسي الذي سيقلني إلى المطار, وتوسلت إليه بكل عبارات التوسل أن يأتني على الفور.فأكد بعبارة تبعث الارتياح في النفس:
سآتيك الآن يا سيدي,فأنا على مقربة من منزلك. أغلقت الهاتف وحمدت الله على حسن حظي. وهرعت إلى الحمام للوضوء, ثم جمعت صلواتي تقديماً كوني على سفر, سلمت وقفزت عن سجادة الصلاة صارخاً: جمالات أين البذلة
لم يحضرها المكوجي
سال السب واللعان من فمي واصفاً المكوجي. رجل بارد, ليس لديه قطرة من دماء, فاقدا للشعور, متبلد الأحاسيس
وإذ أنا على تلك الحالة, دق جرس الباب فوثبت لفتحه, فإذ بصبي المكوجي رافع البذلة وملحقاتها عالياً, كمن يرفع راية الانتصار. فاختطفتها على عجل وصفعت الباب دون وعي قافزاّ بها إلى غرفتي, فإذ به يقرع الباب بعنف صارخاً, النقود, النقود. صرخت في جمالات وأنا على حال الوثوب, أعطه النقود, فالتاكسي على وصول
أخذت في أموري في خفة وعجلة. ارتديت البذلة, هندمت رابطة العنق, مشطت رأسي وارتديت جوربي ولمعت حذائي وارتديته . كل ذلك ركضاً كمن في حلبة سباق. رغم ذلك كانت أذني معلقة بالنافذة تترقب نفير التاكسي. حتى فرغت من كل أموري لم أسمع شيئا..زفرت زفرة أشبه بنفير الحرب, وهاتفته للمرة الثانية, فاستقبل ثورتي بهدوء ينم على سلام نفسي عجيب. وأكد في هذه المرة أنه على بعد حفنة أمتار من منزلي. فبدد الارتياح بعض عواصفي, واستسلمت للانتظار إلى جوار حقيبتي, ملصقاً يدي بوجنتي حتى طال الانتظار. أصررت على أسناني غيظاً وأمسكت بالهاتف وكبست زر الاتصال بعنف. فرد السائق بإلغاء المكالمة. فكاد عقلي أن يطيش, فقد قاربت الساعة على السابعة..ثم السابعة والربع, فالسابعة والنصف وخمس دقائق. فزأرت غاضباً فاتحدت صرختي مع صوت نفير التاكسي..أخيراً وصل السائق بعد أن قادني إلى الجنون. التقطت حقيبتي وطرت دون وداع لجمالات التي اصطدمت بعض عباراتها التثاؤبية بطبلة أذني أثناء ركضي.على غرار صاحبتك السلامة هااااا
هبطت إلى الشارع, فهرع إليّ السائق واختطف حقيبتي وضعها بالسيارة وهو يقدم شتى صور الاعتذار, ويصف لي رحلته البطولية التي قطعها إلى منزلي , وصراعه مع تنين المرور الذي كلما نفذ إلى أحد الشوارع مد يده وحمله بسيارته وألقاه بشارع مزدحم, وكلما أراد الخلاص إلى شارع هادئ, فاجئه التنين بنيران فمه وألجأه إلى شارع أكثر ازدحاما. وصف كل ذلك في لمح البصر, فهززت رأسي بعدم اكتراث, ووثبت داخل السيارة متوتراً, فلحقني وأدار المحرك على عجالة, وهو يقول في تفاؤل ..لا تقلق, سنصل قبل الموعد إن شاء الله. فحدجته بنظرة حانقة وألصقت وجهي بجوالي . نصف ساعة مضت وهو لم يكف عن الثرثرة في أشياء لا تعنيني, ضارباً عرض الحائط بصمتي ونظراتي المتأففة بين الحين والآخر.حتى وصلنا إلى المطار كنهاية لرحلة العذاب. انطلقنا كصاروخين خارج السيارة, وأخرج حقيبتي على عجل, فنتشتها بيد وأعطيته الأجرة باليد الأخرى, وانطلقت إلى الداخل. فاصطدمت بطابور طويل أمام بوابة التفتيش..يا إلهي, إنه كأس انتظار آخر عليّ تجرعه. فلا مفر من اجتياز كثبان البشر الرملي المكتظ أمامي..كان الطابور يتحرك أكثر بطئاً من حركة جمالات..رغم التكييف الذي ينبش وجهي.إلا أنني أشعر أن داخلي متعرق. أشعر أن دقات الساعة عاجزة عن الحركة من فرط سأم الانتظار.. ومضى الوقت بين زفرات الحنق والتأفف حتى وجدت نفسي أمام موظف التفتيش الذي استقبلني بابتسامة وظيفية مثبتة على شفتيه بمشبكي اعتياد صدئين..قام بتفتيش حقيبتي وكأنه يبحث عن شيء زائغ منه منذ أسبوع. انتهى من عمله فنتشت حقيبتي البائسة وهرعت إلى النوافذ الخاصة بإجراءات السفر..فهالني ما رأيت من اكتظاظ الناس..ولكن لا ضير, عليّ أن أرتدي خوذة المحارب لأخوض حرب إجراءات السفر
أوه..أخيراً انتصرت وانتهت الإجراءات ..عليّ الآن أن أتوجه لصالة الانتظار
يا رب السماوات!! إنها تبدو كمخيمات إيواء عاجل لمنكوبي حرب فيتنام ..فقد اكتظت الصالة بالحقائب و المسافرين الذين لم يجدوا مقاعد شاغرة فافترشوا الأرض, ولم أجد بد من مشاركتهم نكبتهم والجلوس إلى جوارهم ببذلتي التي لو كنت أعلم أن ذاك مآلها لما أرسلتها إلى رجل الثلج لكيها
أوشكت الساعة على الثامنة والنصف...فالتاسعة...فالتاسعة إلا الربع. وقبل أن تدق ساعات التاسعة, أعلن مذياع المطار أنه نظراً لظروف خارجة عن إرادة البرتقال الصيفي وعنب الحصرم. ستتأخر الطائرة ساعة عن الإقلاع ..فساعة ..فساعتين ونصف...دلفنا إلى الطائرة في الحادية عشر والنصف..هبطت في مقعدي يعتركني الإرهاق..أسندت رأسي إلى الوراء وأنا أفكر في جمالات..وشعرت كم هي ميقاتية هائلة تتبنى نوع خاص من التوقيت, والجميع يتبعها...المكوجي..سائق التاكسي, وموظفي المطار, حتى الطائرة..آنا وفقط والبؤساء من جنسي الذين تربوا على تقديس قيمة الوقت, نتأفف من توقيت جمالات رغم غلبته ..عليّ الاعتذار لجمالات بجلب هدية لطيفة..سلحفاة مصنوعة من الذهب مثلا! وأكثر من ذلك سأتبنى دعوة وأجمع الأنصار لها باعتماد توقيت جمالات بدلاً عن توقيت جرينتش ...أكاد أسمع صوت مذيع نشرة إخبارية وهو يعلن بصرامته وصوته الرخيم..أيها السادة والسيدات, إليكم نشرة أخبار الخامسة بتوقيت جمالات..يا إلهي ما الذي دهاني, قد أطلقت ضحكة جعلت جميع الركاب على متن الطائرة يسددون إليّ نظرات دهشة. وكأني رجل أصابه الجنون..فتنحنحت وطبعت ابتسامة لطيفة على وجهي وقلت للجميع..رحلة سعيدة..أسندت رأسي إلى الوراء وأغمضت عيني أفكر في توقيت جمالات
الساعة الرملية ، جمالات، المكوجي ، المطار ، أنثى الفيل
